هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت مجلة "فورين بوليسي" مقالا للأكاديمي جوليان غوبفارث، يقول فيه إن الميدان الذي يقع أمام كنيسة السيدة في مدينة دريزدن، التي تم تدميرها في الحرب العالمية الثانية، التي تعد عاصمة ولاية ساكسوني في ألمانيا الشرقية سابقا، أصبح مكان التجمع المفضل لحركة الأوروبيين الوطنيين المعارضين لأسلمة الغرب (Pegida).
ويقول غوبفارث: "كنت في أوغستنير في كانون الثاني/ يناير 2018، للقاء مايكل، وهو مؤرخ شاب من جامعة دريزدن للتكنولوجيا (الاسم مستعار خشية على مستقبله الوظيفي)، وبسرعة برز موضوع Pegida وأوضح مايكل أنه يجد هذه الحركة كريهة، وقال: (لم أشعر أبدا بالرغبة في الانضمام إليهم، لكني شعرت أيضا شعورا أقوى ضد الانضمام للمظاهرات المناهضة لهم)".
ويشير الكاتب في مقاله، الذي ترجمته "عربي21"، إلى أن سبب عدم مشاركة مايكل في Pegida ليس هو بسبب "رسالتها المركزية"، لكن بسبب "الأشخاص الذين ينظمونها"، لافتا إلى أن المعنى من كلام مايكل واضح، وهو أن Pegida حركة مبتذلة، وهي أكثر ابتذالا من أن ينضم إليها شخص من طبقة المثقفين مثل مايكل.
ويلفت غوبفارث إلى أن "مايكل كان واضحا بأنه يؤيد الهدف الأساسي لحركة Pegida: الكفاح ضد الأسلمة المفترضة لألمانيا، وقال إنه يعتقد أن (الإسلام سيكون مشكلة للأجيال المستقبلية في ألمانيا)، وفي الواقع فإن مايكل صوت للحزب الشعبوي اليميني المتطرف حزب البديل لألمانيا (AfD) في انتخابات 2017، عندما فاز الحزب بـ 12.6% من الأصوات ودخل البرلمان، وحاز الحزب في انتخابات ولاية ساكسوني على 27% من الأصوات".
ويقول الكاتب: "لا تنطبق على مايكل المقاييس النمطية لمؤيد لحزب AfD ومؤيد لحركة Pegida، فالكثير يعتقدون بأن القوة الدافعة خلف صعود اليمين المتطرف الشعبوي هو الغضب من الأوضاع الاقتصادية، أو حتى قابلية الألمان الشرقيين لتقبل الفكر اليميني المتطرف، لكن هذا التحليل يتجاوز بعدا فكريا يعد مركزيا لانتشار الفكر اليميني المتطرف ومنحه شرعية في ألمانيا الشرقية وأبعد من ذلك، ومع صعود AfD، هناك مجموعة صغيرة، لكنها مؤثرة، من الفنانين والكتاب والأكاديميين في المشهد الفكري لليمين المتطرف في دريزدن وفي ألمانيا الشرقية، انضموا إلى السياسيين اليمينيين المتطرفين، الذين كانوا حتى فترة قصيرة على هامش السياسة الألمانية".
وينوه غوبفارث إلى أن "هذه البيئة تساعد اليوم على تأسيس ثقافة لليمين المتطرف، تصل بعمق إلى التيار الرئيسي في ألمانيا الشرقية، وبشكل متزايد تجد لنفسها مكانا في الحوار السياسي الوطني، ويلتقي أنصار هذا التيار في المكتبات والصالونات الخاصة، وينشرون في الإعلام الحديث من المدونات إلى المنشورات الراقية، ويطرحون آراءهم في مراكز الفكر، بالإضافة إلى أن لهم أهمية مركزية في بناء عمود فقري لكل من Pegida وAfD".
ويفيد الكاتب بأن "مايكل يمثل ثقافة فكرية بديلة في ألمانيا ساخطة جدا على الطريق الذي سلكه حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، تحت رئاسة المستشارة أنغيلا ميركل، خاصة في مسألتي الهجرة والإسلام، وهو شبكة من البرجوازيين الذين تلقوا تعليما محافظا ودوائر الفكر اليميني الراديكالي و AfDواتحاد القيم (Werteunion) وهو فرع من حزب ميركل، ومنذ إنشائه عام 2017 قام ببناء الجسور مع AfD، ومع أن العلاقات غير رسمية، ولا تدعو هذه الدوائر بشكل مفتوح لدعم AfD، إلا أنه ينظر للتصويت له على أنه خيار واضح".
ويجد غوبفارث أن "ما يجعل هذه الأوساط مختلفة عن الدوائر المحافظة في الماضي هي أنها تجمع مجموعات فكرية مختلفة لم يبد حتى وقت قريب أن هناك مساحات واسعة تشترك فيها، فمن ناحية يحمل هذا الفكر مفكرين من اليمين المتطرف على هامش السياسة في ألمانيا الغربية، مثل كارلهاينز ويبمان وهيمو شويلك وأولريتش شتشاتشت وغوتز كوبيتتشيك، ومنذ سبعينيات القرن الماضي كانوا يضغطون نحو قومية ألمانية أقوى، ومنع تحول ألمانيا إلى مجتمع متعدد الثقافات، وتجاوز ما يرونه الثقافة الألمانية في كراهية النفس والشعور بالذنب، وكجزء مما يسمى اليمين الجديد، كان مصدر إلهامهم حركة فرنسية تحمل الاسم ذاته، وتسوق نفسها على أنها يمين مختلف عن "(ليمين القديم)، الذي فقد شرعيته والمرتبط بالنازية، وطوروا شيئا من نفوذهم خلال فترة حكم المستشار هيلموت كول في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ووصلوا إلى جمهور أعرض بعدد من الكتب في السنوات الأولى بعد إعادة توحيد ألمانيا، لكن مع عدم وجود حزب يمثلهم وإعلام ينشر آراءهم، بقي تأثيرهم محدودا، وبقوا مجموعة على هامش السياسة الألمانية".
ويستدرك الكاتب بأن "هذا الوضع تغير مؤخرا، فقد انضمت إليهم مجموعة من الممثلين البارزين للطبقة الفكرية في ألمانيا الغربية، أعضاء هذه المجموعة بشكل عام خسروا مواقعهم المؤثرة في الإعلام والسياسة والثقافة بحكم التغيرات في ألمانيا، حيث أصبحت الأقليات أكثر ظهورا، وأصبحت السياسة متعددة الثقافات والمساواة بين الجنسين هي التيار الرئيسي، ويرتبط فقدانهم للتأثير بمقاومتهم لهذه التوجهات، ورفضهم للإسلام في المجتمع الألماني وآرائهم حول العدالة الاجتماعية ومعارضتهم لمعالجة التغير المناخي".
ويشير غوبفارث إلى أن "بعض هؤلاء المفكرين كانوا يوما قريبين من حزب CDU، لكن خاب أملهم بسبب الطريقة التي حدثت بها ميركل الحزب، وأبرز هؤلاء أريكا ستينباتش، التي كانت عضوة في الحزب لفترة طويلة ورئيسة سابقة لاتحاد المطرودين، وهي منظمة غير ربحية ألمانية غربية تمثل الألمان الذين طردوا من أراض ألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، وهانس جورج مابين، وهو رئيس سابق لكل من المكتب القومي لحماية الدستور ووكالة الأمن الداخلي الألمانية، والآن شخصية رائدة في اتحاد القيم، لكن هذه القائمة ليست محدودة باليمين، فهي تضم أيضا ممثلين سابقين، مثل ثيلو سارازين، من الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا، والصحافيين هنريك بروجر وماثياس ماتوسيك، وكلاهما كان جزءا من حركة اليسار 68، ثم شغل كل منهما موقعا مهما في إعلام ألمانيا المطبوع".
ويلفت الكاتب إلى أن "مايكل يمثل مجموعة ثالثة من المجموعات التي تشكل هذه البيئة اليوم، وهم عدد متزايد من الألمان الشرقيين الذين كانوا معارضين بشكل ما في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وشغلوا مواقع قيادية في المجتمع المدني خلال الفترة الانتقالية إلى توحيد شقي ألمانيا، وبعضهم خابت آمالهم بسبب الطرق التي تم بها التوحيد، وكثير منهم محبطون بسبب خسرانهم لمواقعهم الفكرية المؤثرة، فيما أصبحت ثقافة تهيمن عليها ألمانيا الغربية، التي يرون أنها تحركها الرأسمالية والتبني الأعمى للثقافة الأمريكية، وخاب في أغلب الأحيان أملهم في أداء دور أكثر مركزية في المجتمع الألماني الجديد، وفقط ظهر بعضهم عندما كان هناك اهتمام بثقافة ألمانيا الشرقية، ومع ذلك لم يحصل هذا ابتداء في المجال السياسي، بل في مجالات الثقافة والمجتمع المدني، ومنذ بروز Pegida شكلت هذه المجموعة هوية سياسية متميزة، ممثلة، على سبيل المثال بالكاتب أوي تيلكامب، والمعارضة الألمانية الشرقية فيرا لنغزفيلد، والمحلل النفسي المشهور هانز- جواتشيم ماز، الذين أعرب جميعهم عن تأييدهم لحركة Pegida".
وينوه غوبفارث إلى أن "هؤلاء المفكرين لم يشتركوا في السابق في أهداف سياسية ولا شكلوا شبكات مشتركة، وجمعهم اليوم رفضهم لما يدعى أنه أسلمة لألمانيا، والمجتمع متعدد الثقافات، وجعل المساواة الجنسية هي الأساس، وما يرون أنها سياسات مناخ استبدادية، وذلك كله ساعد على إيجاد شبكات ومراكز فكرية ومصادر إعلامية تتراوح من المجلات اليمينية المتطرف إلى المنشورات الراقية، وأصبحت هذه الطبقة الفكرية أكثر وضوحا عام 2018، عندما تم نشر إعلان 2018، الذي دعا إلى دعم من المفكرين للاحتجاجات ضد (الهجرة الجماعية) فجلبت معا مفكرين من اليمين المتطرف والمحافظين الحديثين واليساريين السابقين المحبطين، ووفرت جمهورا للمفكرين من ألمانيا الغربية، الذين فقدوا مناصب مؤثرة، وللمفكرين من ألمانيا الشرقية، الذين يستعيدون تأثيرهم السياسي".
ويؤكد الكاتب أنها "شبكة جديدة، وهو ما يجعل مايكل متفائل حول المستقبل، فلتعطشه للمعارضة التي تحمل شرعية فكرية، منحه هذا المحيط مكانا فكريا جديدا، فهنا يجد الدعم والإطار الأيديولوجي الذي يساعده على فهم تحفظه من التغيرات التي تحصل في ألمانيا، وتجربته في ألمانيا الغربية واكتشافه لثقافة فكرية بديلة حولتاه من إنسان لا علاقة له بالسياسة إلى إنسان سياسي، بحسب ما قال، وقد وفر له المفكرون اليمينيون المتطرفون مجالا يمكنه من تحويل مشاعره المختلفة بعدم الارتياح إلى مشروع سياسي".
ويقول غوبفارث إن "التصنيف (شعبوي يميني متطرف) لا يغطي فقط البعد الفكري في صعود حزب AfD في ألمانيا الشرقية، لكن يجعل من الصعب رؤية القاعدة المشتركة بين ثورة ألمانيا السلمية عام 1989 ونجاح اليمين المتطرف في ألمانيا الشرقية، فلمعظم الألمان تساوي ثورة 1989 النضال السلمي للحرية ضد الدولة الظالمة في ألمانيا الشرقية، لكن ثورة 1989 لم تكن حول هذا، لكنها كانت لحظة قومية قادت، في أكثر صيغها تطرفا، إلى عنف ضد المهاجرين, وبعد ما يقارب ثلاثين عاما لا يزال إرث 1989 مركزيا لحملة حزب AfD في ألمانيا الشرقية، التي دعا فيها الحزب إلى ثورة أخرى، وهو ما يعني أنه يرى استمرارا للحكم الشمولي لجمهورية ألمانيا الديمقراطية في ألمانيا الحالية".
ويشير الكاتب إلى أنه "مثل الخوف من التراجع الثقافي، فإن فكرة أن ألمانيا يهيمن عليها الحكم الشمولي لليسار الليبرالي ليست جديدة، بل إنها جزء من أيديولوجية اليمين المتطرف في ألمانيا ما بعد الحرب على مدى الخمسين عاما الماضية، وبالنسبة لمن قمت بمقابلتهم فإن فكرة أن ألمانيا تواجه عودة الشمولية اليسارية كانت حقيقة واضحة".
ويلفت غوبفارث إلى أن "عددا من المعارضين الألمانيين الشرقيين، بينهم مونيكا مارون وفيرا لنغزفيلد، كانوا أساسيين لإضفاء شرعية على هذا الخطاب، وخرجت لنغزفيلد بصفتها واحدة من أهم ممثلي هذه الطبقة الثقافية من ألمانيا الشرقية، وفي عام 2018 كان يبدو هذا الخطاب هامشيا، واليوم حتى الصحافيين من صحف يمين الوسط يحاججون بأن ألمانيا تتحول إلى دولة قمعية تديرها الشعبوية الخضراء التي ستسكت المعارضة".
ويجد الكاتب أن "هذا الإرث الفكري المعقد واضح في المصوتين الجدد لحزب AfD، مثل مايكل الذي لم يكن دائما على اليمين المتطرف، ويقول: (قبل عشر سنوات كنت سأحسب نفسي على يسار الوسط وليبرالي)، وكان محبطا بسبب الطريقة التي تطورت فيها ألمانيا، ولم يجد طريقة سياسية للتعبير عن إحباطه، وكونه مؤرخا فإنه قال إن ما يقلقه هو ان السياسة لم تعط قيمة للثقافة، لكنه لم يتوقع أن هذا سيدفعه نحو السياسة".
وينوه غوبفارث إلى قوله إنه شعر أن إسكات الناس الذين دعموا Pegida يشبه كثيرا ما كان يحصل في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، مثل كثير من مؤيدي حزب AfD في ألمانيا الشرقية، لافتا إلى أنه "مقتنع بأن الإعلام يسير نحو أن يصبح أجهزة دعاية، كما كان الحال في جمهورية ألمانيا الديمقراطية التي نشأ فيها، وفي وقتها كان الإعلام يصور الاشتراكية المثالية، واليوم يطرح الإعلام التعددية الثقافية على أنها مثالية، ويتم إسكات أي تخوفات من المشكلات المتعلقة بالهجرة".
ويرى الكاتب أنه "مع أن أزمة اللاجئين سرعت في تطرف مايكل، إلا أنها لم تكن هي الأصل، بل إن عدم ارتياحه كان بسبب تجارب سابقة جعلته يشعر أن الثقافة الألمانية في خطر، فقد التقى قبل Pegida بعام بصديقة فرنسية في برلين، فقالت له إن فرنسا تمر في عملية أسلمة، وحذرته من أن ألمانيا متساهلة مع المسلمين، وتسمح لهم بالهجرة إليها، وتتقبل منهم فرضهم لثقافتهم، وما لم يتغير هذا فإن ألمانيا تواجه الخطر ذاته الذي تواجهه فرنسا".
ويختم غوبفارث مقاله بالقول إن "مايكل شرح مخاوفه دون غضب، لكن مخاوفه من أن الثقافة الألمانية تستبدل بثقافة أجنبية ومسلمة تشبه ما ينشره اليمين المتطرف عن نظرية (الاستبدال العظيم) المبنية على كتاب اليميني المتطرف الفرنسي رينود كاموس، وتقول النظرية إن النخبة الليبرالية الأوروبية تسعى لاستبدال الأوروبيين الأصليين بمهاجرين، خاصة من المسلمين".
لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)