هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تتمثّل التجربة الشعريّة للشاعر الأردنيّ علي النوبانيّ إحساسَ إنسان العصر الحديث بالمواجهة المستمرة على المستوى الفرديّ والجمعيّ؛ وهذا من جهة، بسبب الطبيعة الآليّة للعصر الحديث وهيمنة قيم الرأسماليّة بصورة عامّة. ومن جهة أخرى، بسبب تجربة الشاعر الخاصّة على المستوى الاجتماعيّ والوجوديّ. ولا بدّ أن تؤدي هيمنة الإحساس بالمواجهة في نهاية المطاف إلى تجربة قائمة على الاغتراب واليأس من المجتمع والوجود على حدّ سواء، فتصبح القصيدة فضاء للاغتراب عن الوجود كلّه، مثلما يظهر في قصيدة "الصيف الأصفر":
وعيوني تبعت دربا من غير نهاية
غاية بؤسي أنّي
لبثتْ في عيني دمعة
وارتفعت راية
العشب اليابس أفق
والراعي حطّم نايه
وغبار الصيف الأصفر
يقتحم العالم حولي
"الصيف الأصفر" تمثيل مهيمن للجفاف الروحيّ والنفسيّ
الذي يدبّ في جنبات الشاعر، ليغدو هذا الجفاف في صلب الأشياء وجوهرها، وعلامة دالة
على الصراع العنيف بين الذات والواقع المجدب. الشاعر هنا يبحث عن الحريّة
"دربا من غير نهاية"، دون جدوى، فهو لا يرى غير العزلة والوحدة، فقد
استبدّ به القلق، فكلّ شيء حوله هو العدم.
وتعرض القصيدة ذاتُها بواعث هذا الإحساس العميق
لدى الشاعر،وتتجلّى فيها إدانته لواقع الحياة المعاصرة الذي فقد فيه الإنسانُ
قيمتَه وتحوّل العالم إلى ماديّ خالص، وعصر من الكساد يبيع الهموم للإنسان ويشيع
سمومه الروحية، ليغدو الإنسان، في المحصّلة، مجرّد كائن مستلب لا قيمة له:
قلبي يتضوّر جوعا
والسوق يبيع هموما
والكون يشيع سموما
ثكلتني أمي
لا أعرف أنّي في عصر كساد
ولذلك يواجه الشاعر مزيدا من الاغتراب عن واقعه
الذي يتحكّم فيه أوغادُ العصر، ليتبقّى له ما يعرضه هؤلاء من أحلامه المهدورة في
سوق العصر الذي يتّصف بالكساد. من هنا، يبدو طبيعيّا أنّ قلبه يسكنه الجوع
الروحيّ، فهو جزء مما يفرزه العصر الراهن من استلاب للذات. يقول الشاعر في قصيدة "كابوس":
وتباعا أُلفيني وحدي
والبومُ يغنّي يشجيني
ويفتّح في الدرب الأسود كوّةْ
وشعاعٌ في الأفْق المظلمْ
يتساقط في عمق الهوّةْ
وصراخ يَصلى أذني لا أعرف مبعثه
أوصال تُقطع في جوفهْ
والدنيا ما زالت دنيا
أسياف تبتُرُه إربا
يستنجد بي ويناديني
ويطول البحث إلى خيبةْ
ويعود دليلي محتارا
والنحس رفيقي يشجيني
تبرز، بشكل واضح، دلالاتُ الغربة والوحدة
والخيبة والألم مهيمنةً أبدا على الشاعر لا يستطيع منها فكاكا، والرحلة من اغتراب
إلى اغتراب جديد ماثلة في ذهنه، وإذا ظهر "شعاع في الأفق المظلم" لا
يلبث حتى "يتساقط في عمق الهوّة"، واستخدام الفعل "يتساقط"
فيه معنى التتابع والوقوع والانهيار، الأمر الذي يجتثّ أيّ أثر لذلك
الشعاع.وتستمرّ القصيدة في تأكيدٍ لإحساس الشاعر إحساسا بالغا بأنه مسجون خلف جدار
الإنسانيّة ولا يستطيع تجاوزه نحو الحلم المنشود. وهذا يجعل الإحساس بالضعف وانعدام
المعنى، وفقدان المعايير، والإحساس بالعزلة، والانطواء على الذات جوهرا في القصيدة.
ويُلحظ بوضوح من خلال متابعة دواوين النوباني
الخمسة اعتقادُ الشاعر بوحدة التجربة الإنسانيّة وسيرورتها التاريخيّة القائمة على
البؤس واليأس. وفي ضوء ذلك، يغدو التاريخ بالنسبة إليه سيرة اغتراب الإنسان، ولذلك
نجده يقوم بالغوص العميق في ثنايا الماضي لا ليسرد لنا ألقه، بل ليكشف عن رحلة
العذاب الأزليّة التي رافقته. وينطبق هذا على تاريخ الذات والتاريخ الإنسانيّ على
حدّ سواء، فنراه يستنجد بطفولته ليلتقط صورا ماثلة في ذهنه من عالم الطفولة المسروقة:
يا طفلا يحلم بالخبز وبالسكّرْ
والعالم من حولك يسكرْ
تلعب " بيت بيوتْ"
وترى كلّ الأحلام تموتْ
تبحث عن لقمتك الحمراءْ
في تاريخ العظماءْ
في كتب الفقهاءْ
في ليلة جوع ليلاء
فاللجوء إلى الماضي يظهر على شكل ارتداد إلى صلب
المعاناة وجوهر الاغتراب، فالطفل هنا، وهو الشاعر، يحلم ببراءة بالحدّ الأدنى من
حقوقه، بينما العالم من حوله لا يأبه به. وعلى الرغم من أنّه، في آخر هذه القصيدة،
يُظهر شيئا من الأمل في مواجهة الظلم المحيق به وبالإنسان في مجتمعه، لكنّ الإحساس
بالألم والقهر والوحدة والجوع يظلّ مهيمنا على أجواء القصيدة.
وتمثّل العودة إلى الماضي، وخصوصا عالم الطفولة،
سمة بارزة في شعر النوباني، علّها تكسر جفاف الواقع المجدب، والسأم الوجودي الذي
يعانيه، ليجد ذلك العالم مجبولا بالخوف واللعب الذي نُزع منه الفرح والأمل. ففي
قصيدة "قال الراوي"يبدأ الشاعر من اللحظة الراهنة، لحظة المكابدة
والألم،حيث يسير الشاعر وحيدا تستنزفه الحمّى، ولكن سرعان ما يرتدّ صوب الماضي
ليتناغم إحساسه المرّ بالزمن دون أن يجد فيه السلوى المنشودة:
كنّا نستلقي في الظهر الأحمر
نبني من حَجَرات الجبل الحدباء
قصورا صما
نتوحّد في وسخ الأرض
ونتلو آيات الخوف
لئلا تأكلنا الغولة ظلما
يأخذنا هذيان العمر
وينزلق المشدود إلى أعمدة الدهر
وأذكرني أمضي
حتى مزّقني شئ ما منّا
تهيمن على المشهد دلالات السراب والخوف والتمزق:
القصور الصماء، وسخ الأرض، آيات الخوف، هذيان العمر، وتنتهي بالتمزّق والاضطراب
دون معرفة الأسباب الفعليّة التي تؤدي لذلك؛ "مزّقني شيء ما"، وهي صور
قاتمة تصبغ الماضي بلون الحيرة والخوف، وتمثّل امتدادا لصورة الحاضر الذي يعاينه
الشاعر.
والقصيدة تغصّ بصور الماضي القاتمة في جملتها،
فقد باءت كلّ محاولات الخروج من جحيم الاغتراب الذي يعانيه الفرد والجماعة على
السواء بالفشل، وتمتلئ القصيدة ذاتها بصور دمويّة عانتها الذات في ماضيها، وضمّت
إليها اغترابا جماعيّا نالت من قام بمحاولات التخلّص منها. وفي الجملة تبقى هذه المحاولات باهتة، حيث تظلّ صور
الغثيان والاندحار والموت هي التي تقول كلمتها في النهاية، فيستمر الشاعر وحيدا
مطاردا تلاحقه عيون الموت من كلّ صوب.
والتناغم بين الماضي والحاضر في إحساس الشاعر
بالاغتراب يظهر رؤية شاملة في قصائده، فعلى سبيل المثال، في قصيدة "قمر من
عشتار" تبدأ الحركة من لحظة الماضي، وهي لحظة أسطوريّة تجلّت فيها عشتار
للشاعر لوهلة خاطفة تسببت له بالحزن، فقد أهدت إليه قمرا حزينا:
لكنّي يا قمري
نذرتني أمّي مذ كنت صغيرا
أضحيةً للعيد
فأسبلت جفوني
وتراخيت إلى أن وضعوا السيف على حدّي
بتروا لي قائمتي
فتوكأت على عكّازة جدّي
رفعوا عنّي السيف قليلا
لكنّي أورثت البؤس لمن بعدي
يظهر الشاعر منذ وجوده في الزمن الماضي وهو
يعاني ويكابد، ونجد الأفعال الماضية في القصيدة: نذرتني، أسبلت، تراخيت، وضعوا،
بتروا ، توكّأت، أورثت، تدلّ بشكل واضح على تلك المعاناة والمكابدة، فالشاعر يهيمن
على كيانه الشعوريّ إحساس عميق بالوحدة والانفصام عن الواقع، نتيجة للضغط المفروض
عليه من السلطة الاجتماعيّة المحيطة به، وهو يظهر مفعولا به لا إرادة له ولا سلطة
على حياته ونفسه: "نذرتني أمّي أضحية للعيد"، "وضعوا السيف على
حدّي، بتروا لي قائمتي"، "رفعوا عنّي السيف قليلا"، وعندما يظهر
الشاعر في موقع الفاعل ينقل البؤس لمن بعده كما في الجملة الأخير من هذا المقطع.
لقد كان من المفترض أن يكون الماضي لحظة هاربة
من الحاضر الذي فرض على الشاعر اغترابه عن ذاته ووجوده، لكنّ الماضي هنا امتداد لصورة
الحاضر الجاثم على روح الشاعر، فنجده يخاطب الليل:
يا ليلُ أنا في الغربة وحدي
أجترّ همومي
وأسافر في العتم وفي البرد
من يا ليلُ سيجمع أوراقي
وشتاتَ العمر الباقي
ويشيع الدفء على أحداقي؟
ولا بدّ من التأكيد على أنّ سيطرة هذا الإحساس
باليأس والاغتراب في تجربة النوباني الشعريّة قائمة على انسجام داخليّ في عمله
الشعريّ، فهذا الإحساس قائم على انسجام وتناغم على المستوى الفنّي، فعلي النوباني
يبني في أعماله الشعريّة فضاءاتٍ ملائمةً لهذه التجربة، بحيث يأتي المجال الرمزيّ
والاستعاريّ الذي يخلق الإحساس بالاغتراب من طبيعة التجربة نفسها، وليس مقحما
عليها، وتنعكس آثارها على مكوّنات النصّ الشعريّ كاملة.
والنوباني يظهر من خلال
شعره في أزمة واضحة مع المجتمع والوجود، لكنّ هذه الأزمة تنطلق من موقف خاصّ يواجه
به مجتمعه ووجوده ويريد تغييره وفق ذلك الموقف، وهذا يعني أنّ الصراع والأزمة
وأحيانا الشعور بالاختناق ليس من أجل المواجهة والرفض بلا هدف، وإنّما ينطلق من منظور
تجاه نفسه في علاقتها بمحيطها، وتجاه القيم التي يراها لازمة وجوهريّة في الوجود.