عادت مع حماتها من عيادة طبيب النساء بينما الحزن والبؤس واليأس يملؤون قلبها، أما وجهها الذي يحمل من النضارة والبهاء ما شاء، فيبدو باسما يفتن العقول ويأسر القلوب. تنتظرها ثلاث حماوات، هن جدة زوجها واثنتان من عماته، اللاتي لم ينتظرن لحظات حتى بدأن حملة الهمز والغمز واللمز، وتحريض حماتها، بكلمات: كفى عليها خمس سنوات لم تنجب فيها ولا حتى صرصارا، كفى ما ضاع من عمر ابننا.
خلعت عباءتها السوداء. أخذت نفسا عميقا. استعادت بعض هدوئها وأخفت دموعها التي تكاد تنفجر من فرط سخونتها، وخرجت أمامهن وكأنها لا تعلم من قولهن شيئا، بينما أبدت الحماوات ودهن لها بالابتسام تارة وبأوامر تخفي وقع جريمتهن، وكأن الأمور على ما يرام تارة أخرى.
فقالت إحداهن: ماذا لو صنعت لنا أربعة أكواب من الشاي، وتابعت الثانية: لا لا، عليكي بالمطبخ والتلاجة فإننا جوعى، فيما جاءت أوامر الثالثة: بغسل الملابس مع طهي الطعام.
عايدة، نعم هذا هو اسمها، أما رسمها فتبدو كقطة صغيرة من أجمل بنات الدنيا، أو وردة جميلة نبتت في ريف
مصر تم قطافها قبل أوانها وهي ابنة الاثني عشر ربيعا. تركت المدرسة بعد الشهادة الابتدائية، فلم تكن لتسمح جدتها لأبيها أن تكمل تعليمها، بينما عمتها آمال التي تقاربها في العمر لم تكمل الصف الثاني الابتدائي.
رد جدها عشرات الخُطّاب الذين ظلوا يغبرون الشارع، حتى جاء أحد أقارب جدتها: "ميكانيكي طول بعرض، وجهه كالبدر، كما كانت تصفه الجدة، ليتزوجها سريعا، وهي طفلة لم تغادر يوما حضن أمها ولم تعرف سوى أخوتها، ولا تركت ساعة قريتها، لتبدأ حياة جديدة بعد براح الريف وسعته في حجرات القاهرة الضيقة في حارة بحي شبرا".
تبارت عيناها في دفع الدموع ودفقها كالمطر؛ الذي دائما ما يتساقط من شرفة شقتها الصغيرة في ليالي شتاء طوبة، لا يعرف من يراها إن كانت من البصل الذي تقوم بتقطيعه أم من حديث المتآمرات.
ولكن رغم الدموع والقهر والألم، ورغم توزيع جهدها بين الغسالة التي اشتراها لها أبوها بعدما عايرتها إحدى حماواتها، وبين المطبخ وغسيل المواعين وإعداد الطعام الشهي الذي ينتظرونه كالعادة، وبينما الجميع يجلس متحوقلا لإعداد المؤامرة عليها؛ إلا أن السؤال الذي كان يقطع دموعها ويثير رعبها هو عدم رد حماتها على المتآمرات، لا بالسلب ولا بالإيجاب.. ذلك الصمت كاد يقتلها.
لم تكد تنتهي من إعداد الطعام، ونشر الملابس، حتى سمعت صوتا جديدا تعرفه ولا يكاد سمعها يخطئه، نعم هي "زوجة أب" حماتها هي وابنتها وردة التي تقترب من عمر عايدة، قادمة من قريتها وحاملة فوق رأسها ما تبقى من أقفاص الحمام والبط والطيور التي تبيعها لأهالي القاهرة الأثرياء، لتنضم إلى قافلة التأليب والتسليط وذبح الصغيرة في كرامتها.
ولأن المتآمرة الجديدة لم تكن تعلم أن عايدة في المطبخ، وأنها تعد لها ما لذ وطاب، وأنها تجهز لها بعد الطعام الشاي، وأنها ستحمل ما تساقط من فمها وما تبقى من طعامها وتغسل أوساخ الصحون التي أكلت وأكلوا فيها، وكلها رضا؛ انطلقت في حملتها التحريضية قائلة بصوت عال: لم تصبرون على تلك العاقر التي لا تلد، هي أرض بور لن تنبت، والماء والحب خسارة فيها، طلقوها وزوجوا ابنكم ممن تنجب له العيال، وألقوا بها لأهلها، ولو لم يكن لديكم المال أساعدكم. لترد النساء الثلاث: سلم لسانك، هذا هو الكلام.
وبعد صمت طويل على جلستي التحريض الطويل، خرج صوت حماة عايدة، تلك السيدة التي اكتوت بنار ابن عمها الذي طلقها وهي تحمل بين يديها ولدين صغيرين، فعاشت محرومة من لمسة يد رجل حانية طوال عمرها، وكي تربيهما امتهنت التجارة، وزوجتهما واحدا تلو الآخر لينجب الأصغر ولدين ويتعثر الثاني. قالت لمحرضاتها بكل عزيمة: لا تحاولن، عايدة هي من ستملأ هذا البيت أطفالا، وهي من ستنجب لابني يوما ما، ولن أيأس من فرج الله.
أعادت تلك الكلمات الحياة للصغيرة، فخرجت من المطبخ لتضع الطعام، متظاهرة بأنها لم تسمع مما قالته المحرضة الرابعة شيئا، وابتسمت في وجه حماتها، وقلبها يغرد مع كل نبضة أنت أمي التي لم تلدني، وحملت يدها وقبلتها وقالت لها: هل تريدين مني شيئا آخر؟ فبكت حماتها وبكت عايدة، وسط سخرية المحرضات، وخرجت للشارع نحو شقتها تقول: يا رب عدلك الإلهي، يارب فرجك الرباني.
عادت من السوق، تحمل فوق رأسها وبين يديها، وتضع هاتفها بين إحدى أذنيها وخمارها تحادث بناتها، وبينما هي مثقلة بما تحمله وجدت حولها أحفادها يطوقونها من كل حدب وصوب، يحملون عنها ويتخاطفون الفاكهة والمعجنات والحلويات، إيذانا ببدء عيد ميلاد حفيدتها مريم.
نعم هي عايدة، التي جلست وزوجها بين أحفادهما الثلاثة عشر، وأبنائهما الأربعة، وزوجين وزوجتين لهما، وابن وابنة لم يتزوجان بعد، يتبادلون أطايب الطعام والسمر والحكاوي والذكريات التي لم تخل من حكاية المحرضات الأربع.
فرحة تلك اللمة وذلك السمر لم يكن ليقطعها إلا لهيب زفير غاضب يخرج من آن لآخر، يكاد ينفجر من حرارته فوق رؤس الحاضرين، مفرغا شحنة ألم ترقد في صدور الكبار من ضيق الحال الذي أصابهم وعم أرجاء مصر الفقيرة.
ودون انتظار وعلى غير العادة، قطع حديثهم السامر وزفيرهم الغاضب صوت زائر جديد. "وردة" نعم وردة، ابنة المحرضة الرابعة التي أدت دور الشيطان قبل 30 عاما، رغم جمالها ورقتها وزواجها مرتين إلا أنها حُرمت من الإنجاب.
نظرت عايدة حولها متأملة نعم الله عليها، وتذكرت كلمات أم وردة القاسية وكيف أن الله قد أجزل عطاءها، وقالت لأبنائها وأحفادها: وكأن العدل الإلهي صُنع لأجلك أنت يا عايدة. فرد الجميع: والعاقبة عندك في العدل الإلهي يا مصر!