لا يزال الرئيس
التونسي المنتخب قيس سعيد مثار جدل واسع داخل تونس وخارجها، لكن علاقته بفلسطين تبقى من أكثر المسائل التي وضعته في سياق وطني وإقليمي ودولي مضطرب ومتحفز.
لم يكن يعرفه عندما كان يدرس بكلية الحقوق سوى زملاؤه وطلبته. لم يكن مسيسا، ولا منتميا لحركة قومية أو إسلامية أو يسارية، وهي حركات في غالبها تضع المسألة
الفلسطينية في مقدمة اهتماماتها، مع ذلك حدثت المفاجأة عندما اعتبر خلال المناظرة التلفزيونية التي جمعته بمنافسه أن
التطبيع مع إسرائيل "خيانة وطن وجريمة دولة"، مؤكدا أن تونس في حالة حرب مع إسرائيل. قال ذلك وردده بنبرة حازمة وغاضبة. ثم كانت المفاجأة الثانية عند الإعلان عن فوزه الساحق، حيث توجه إلى الجميع بكلمة مرتجلة وبلغته العربية الفصيحة، تحدث فيها عن وقوف تونس مع القضايا العادلة للشعوب وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني المقاوم من أجل حقوقه المسلوبة. وقد وجدت كلماته الصادقة والعميقة صدى عجيبا في صفوف الفلسطينيين، الذين سارعوا بدعوته إلى زيارة غزة المحاصرة.
ظن التونسيون في البداية أن هجومه على التطبيع يندرج في سياق حملته الانتخابية، ومحاولة منه إحراج خصمه الذي لجأ إلى شركة كندية مختصة في الدعاية يديرها عضو سابق بالموساد، لكن عندما كررها سعيد في لحظة انتصاره أحدثت ردود فعل مختلفة، وجعلت الجميع يتساءلون: هل أن تونس مقدمة على تحول عميق في سياستها الخارجية؟ وهل تعود من جديد لتصبح دولة من دول المواجهة مع إسرائيل كما كان الحال عندما استضافت القيادة الفلسطينية بزعامة عرفات؟
ينتمي قيس سعيد إلى أغلبية التونسيين الذين تربوا في بيئة مناهضة للسياسات الإسرائيلية، ومؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية؟ قد يتفاوت هذا الإيمان من تونسي إلى آخر، غير أنه مستمر وعميق لدى الكثيرين منهم، لكن بحكم المسافة الجغرافية التي تفصل تونس عن فلسطين، ونظرا لحجم البلد ومشكلاته وارتباطاته وتجاربه السياسية وعمق المدرسة الإصلاحية، ووجود حد أدنى من التعددية الدينية، وميل الشعب التونسي إلى الاعتدال والبرغماتية، والآثار التي خلفتها سياسات الرئيس بورقيبة على شخصية الأفراد والجماعات، فإن الرئيس الجديد لن يكون من صنف المغامرين الذين يعملون من أجل إقحام البلد في سياسات من شأنها أن تضع الأمن القومي في مأزق، وأن تعرض الدولة التونسية إلى مخاطر لا تحمد عقباها.
عبر الرجل عن المزاج التونسي العام المناهض للصهيونية، والمرتبط وجدانيا بالفلسطينيين منذ ما قبل تاريخ التقسيم، وسيبقى مناصرا لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته. من هذا المنطلق يختلف تعامل قيس سعيد الإنسان والمواطن والمثقف مع قيس سعيد الرئيس. فهو مطالب الآن بأن يلتزم بالسياق الإقليمي والدولي ويأخذه بعين الاعتبار، دون أن يبرره فكريا، أو أن يؤصل له شعوريا أو سياسيا.
طرحت مسألة التطبيع في تونس منذ الأيام الأولى للثورة، وخلال أعمال المجلس الوطني التأسيسي طالبت بعض التيارات بالتنصيص في الدستور الجديد على تجريم التطبيع، لكن هذه الدعوة لم يتحمس لها الكثيرون، بمن فيهم قيادة حركة النهضة. وتم تبرير الاعتراض بطرق متعددة، لكن الحركة كانت في الحقيقة حريصة يومها على تثبيت أقدامها وترتيب وضعها الداخلي، وكانت متخوفة من ردود فعل غربية قد تتسبب لها في ارتباك وتجعلها مستهدفة في مرحلة صعبة.
عاد الملف من جديد بعد استكمال الدستور، وطرح الموضوع في شكل إصدار قانون يجرم التطبيع، لكن هذا القانون بقي يراوح في مكانه طيلة الدورة البرلمانية الأخيرة التي استمرت خمس سنوات، واتهمت حركة النهضة مرة أخرى بكونها من بين الأطراف الرئيسية التي تقف وراء ذلك. ورغم أن هذه الأخيرة تنفي ذلك، إلا أنها دفعت الثمن، ومن آثار ذلك تقليص دائرة أنصارها، وتعميق الفجوة بينها وبين الأحزاب القومية واليسارية.
ليس مستبعدا اليوم أن يصادق البرلمان الجديد على قانون مناهضة التطبيع نظرا للسياق العام، ونتيجة انقلاب ميزان القوى في ظل نتائج الانتخابات الأخيرة. فلم تعد حركة النهضة قادرة على المناورة، خاصة وأن رئيس الدولة الجديد متحمس لهذه المسألة.
من المتوقع أن تحدث ضغوط خارجية على تونس للحيلولة دون المصادقة على هذا المشروع، وقد يلجأ الكنغرس الأمريكي إلى إيقاف المساعدات أو جزء منها إلى تونس، لكن ذلك لن يكون له تأثير مباشر على الجانب التونسي.
ما يجب التحذير منه هو الخلط الذي يمكن أن يقع فيه البعض بين اليهودية كدين يؤمن به جزء من التونسيين وبين الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطينية. وقد حذر قيس سعيد من هذا الخلط في العديد من تصريحاته، وهو يعلم بالتأكيد أن جزء من اليهود التونسيين يترددون على عائلات لهم مقيمة داخل إسرائيل، ويجب أخذ ذلك بعين الاعتبار عند صياغة القانون المجرم للتطبيع.
هناك من لا يريد خيرا لتونس وثورتها وديمقراطيتها الناشئة. وقد تعالت أصوات إسرائيلية مؤخرا داعية إلى الشروع في الضغط على الرئيس التونسي، مثلما فعل أحد الصحفيين الاسرائيليين على قناة "24 آي" الإسرائيلية عندما قال: "يكفي أن نذهب للدولة الراعية لتونس وهي فرنسا، حتى تجتمع بسعيد وتحذره من مغبة المضي في مواقفه العنترية تجاه تل أبيب". وأضاف في لغة تعال وتهديد: "أين هي القيادات العربية التي هددت إسرائيل، كمحمد مرسي الذي في حكمه رفرف علم إسرائيل في القاهرة".
الطريق محفوف بالمخاطر، وموازين القوى مختلة في مرحلة انخرطت فيها أنظمة عربية عديدة في دعم التطبيع والانخراط فيه، لكن تونس تبقى محمية بوعي شعبها، وبعقلها السياسي الجمعي، وبحكمة نخبها، وما مرت به خلال الأشهر الثلاثة الماضية دليل قاطع على ذلك لمن يفهم حركة التاريخ.