هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
لا علاقة لآرثر ميلر بهذا المقال، رغم أن العنوان عنوانه، فقد مات ميلر كما مات أبطاله، وكما ماتت زوجته مارلين مونرو بنفس طريقة موت بائعه الجوال!
(2)
لا علاقة للموت بهذا المقال، رغم أن الموت يتقدم العنوان، ويحضر في المتن، ويزاحمنا في الأخبار والتعليقات اليومية.
(3)
باختصار واختزال: المقال عن الحياة.
لا أقصد الحياة بمعناها الفلسفي، ولكن أقصد طعم الأيام التي نعيشها، وعلاقة السياسة والثقافة والقوانين والاقتصاد في ذلك الطعم.
(4)
ربما أخذك العنوان إلى حادثة البائع المتجول الذي لقي مصرعه في مصر تحت عجلات قطار، بسبب عجزه عن دفع ثمن تذكرة الركوب.
بالمناسبة.. "الثمن" أيضا عنوان واحدة من مسرحيات ميلر، وهي أيضا عن الموت، وإذا كنت من المغرمين بالرمزيات، فإنك ستعرف بسهولة أن القطار يرمز للزمن.. لحياتك نفسها، وستقبل أن فكرة القفز من القطار تعني أنك تنفذ رغبة داخلية في القفز خارج الحياة كلها، لتتخلص من عبء ما، أو تهرب من مأزق ما، أو تتحرر من عجز ما، أو تعبر عن احتجاج ما: "هو القطر ده ما فيهوش رجالة وللا إيه يا جدعان؟".
وقراءتي لهذه الصرخة أنها استدعاء مدموغ بالغدانة لمجتمع مهزوم قابل بفساد وتجبر الدولة.
(5)
سامحوني، فأنا لا أتذكر اسم البائع المقتول، أتذكر الصفة التي أسبغناها عليه "شهيد التذكرة"، كما لا أتذكر اسم طالب الثانوي المنعوت بـ"شهيد الشهامة"؛ لأننا ساهمنا في ترسيخ اسم القاتل راجح في ذاكرتنا (#إعدام_راجح) ولم نهتم كثيرا باسم القتيل، ربما لأن اهتمامنا انصب على قيمة الشهامة. وبهذه الطريقة لم نعرف أسماء المقتولين في معظم الأخبار:
تصفية 9 إرهابيين.. مقتل العشرات في.. شهداء يناير، ضحايا المجازر المتكررة في كل مكان حولنا وفي انحاء الأرض!
(6)
يدور فيلم "كورتشاك" للمخرج البولندي أندريه فايدا عن أهوال الحروب، وسجن وتعذيب وقتل الأطفال في الشوارع والملاجئ، لكن ذاكرة البطل الأخلاقي تسترجع كل هذه الفواجع في سرد موضوعي، بينما يشعر بالألم والفزع الشخصي العنيف عندما يتذكر صورة رجل سكير يركل طفلاً!
هذه الملاحظة أدهشت عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، كما أدهشت لودفيج فنجنشتاين قبله فكتب يقول: "لا يوجد بالنسبة لمشاعرنا عذاب أفظع من ذلك الذي يعانية فرد واحد. نحن لا نشعر بالعذاب الجمعي للملايين والآلاف بقدر ما نشعر بصرخة عذاب فرد واحد".
ربما لذلك ننسى عموم السجناء وعموم الفقراء، وربما نلومهم أو نتحامل عليهم، لكننا نتعاطف أكثر مع المشاعر الفردية: #مصطفى النجار_فين؟ // #freeAlaa // #freeEsraa // #شهيد_البرد
(7)
يتذكر باومان الاتهام التي وجهته "ليزلي ستال"، مذيعة "CBS"، لمادلين أولبرايت بقتل نصف مليون طفل عراقي بسبب قرارات الحرب والحصار، وبررت أولبرايت ذلك بأن "الخيار صعب، لكن الثمن يستحق"!
ويهاجم باومان هذه القسوة الإجرامية الباردة، ويندد بالجنرالات والمسؤولين الذين يتعاملون مع حياة الناس بمنطق "بيض العجة"، حيث العجة هي الدولة، وحيث البيض هو الناس، وبما أنك لا تستطيع أن تصنع العجة بدون كسر البيض، فأنهم يبررون لأنفسهم كسر الناس وتفريغ حياتهم لصناعة الدولة كما يفرضونها، وهي بالطبع دولة المهيمنين وليست دولة الناس.
(8)
حفظ الناس في مصر صرخة "خريج التوكتوك": حرام دا ما يرضيش ربنا.. كما حفظوا أسماء رمزية للشهداء: مينا دانيال وجيكا وعماد عفت وأسماء البلتاجي و.. كما دافعوا عن حالات تعرضت للتحرش والتنمر والاعتقال والتعذيب والفقر والاضطهاد والقتل.
لكن هؤلاء المتضامنين والمعجبين بالمواقف الفردية، لم يهتموا بالمنظومة كاملة، وربما حاربوا آخرين تعرضوا لنفس الظروف، لكنهم كانوا خارج "نعيم الهاشتاج"، وربما لأن المزاج الفئوي أو السياسي، أو التبني الإعلامي، لم يضع الضحايا المظلومين موضع المانشيت التعاطفي العام، لذلك تكرس السلطة في مصر (كما يكرس الناس) حالة التعامل مع الفقر والقمع والانتهاك لوصفها "حالات فردية"؛ لا يسعى الطرفان للتعامل معها باعتبارها مشاكل بنيوية وأمراض منهجية لا حل لها إلا بتعميم القوانين والمساواة في الإعلام والاخلاق والحساب، ولا مانع من التعاطف الإنساني بعد ذلك لأنه سيكون بمثابة "موقف مزاجي" يضيف ولا يخصم من القوانين.
(9)
يقول خبراء الأمان الهندسي إن متانة أي جسر تقاس بقدرة أضعف أعمدته على التحمل، وبهذا التعريف فإن قوة المجتمعات تقاس بمقدار قوة تحمل الفقراء والشرائح الضعيفة من الفئات العاملة. فمهما كانت معظم أعمدة الجسر قوية فإن انكسار عمود واحد ضعيف يؤدي على انهيار الجسر أو تعطيل وظيفته. وبهذا المعنى لا تدرك الدولة أنها ترتكب حماقة كبيرة (غير علمية وغير آمنة) عندما تهتم بتدعيم أعمدة قريبة منها، كفئات القضاء والأمن ونواب البرلمان وغيرهم، وتهمل أعمدة اضعف مثل الباعة الجائلين والطبقات العاملة الفقيرة؛ لأنها بذلك تعجل بالانهيار الشامل، فلحظة السقوط لا تمس حياة البوعزيزي فقط، بل تمس حياة الرؤوس الكبيرة في بلده، كما تأثرت حياة جمال مبارك وأحمد عز بحياة خالد سعيد وعماد الكبير.
(10)
من يرد للقتيل حياته؟
هذا السؤال "خنسائي" تعجيزي تحريضي يوغر الصدور للعنف وكراهية العالم.
لدي اقتراح بسؤال أفضل: من ييسر للحي حياته؟
فقد اتفقنا منذ البداية ان المقال ليس عن الموت، الموت شأن الميتين.. سؤالنا عن الحياة، لذلك لن أوافق "الأخ الأكبر" في رواية أورويل على أن هذا العالم ميسر فقط للوحوش، "كن ذئباً تكن أفضل"، فهذا ما يجب تغييره، وهذا ما نرفضه ونناضل ضده.
وإذا سأل البعض سؤال قابيل المتذمر: هل خلقني الله كمجرد حارس لحياة أخي؟ فإن ردي المتواضع هو: لا، لم يطلب منك أحد ان تكون حارسا.. فقط كن شريكا، متعاونا، متعاطفا، مدافعا عن حياتك في الخطوط الأمامية، فحياة الآخر هي حائط متقدك يحمي حياتك نفسها، ولهذا سعى الإنسان للمجتمعات، وسعت المجتمعات للدول. وهذا يعني أن الترتيب الصحيح: إنسان- مجتمع- دولة.
لذلك، يجب أن يكون الدفاع عن هذا المثلث بنفس الترتيب، وهذا هو الانقلاب الذي دبرته الدول الفاسدة لتتقدم على المجتمع وعلى الإنسان. وأظنكم امسكتم بطرف الخيط في الحديث السياسي عن الحياة، فلن أزيد اكثر.
[email protected]