هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في 2007، نشرت الكاتبة المسرحية الفرنسية (من أصول إيرانية) ياسمينة رضا نصاً بعنوان "إله المجزرة"، ليشهد طلباً على تجسيده من قبل فرق مسرحية عدة، في فرنسا أولاً، ثم في بلدان أخرى مثل إسبانيا وسويسرا، وصولاً إلى تجسيده في عمل سينمائي من إخراج رومان بولانسكي في 2011، وهو عمل إضافة إلى كونه ينقل نصاً مسرحياً إلى شريط سينمائي، كان ينتقل من فضاء في باريس إلى إطار في نيويورك، دون أن نجد صعوبة في نقل العمل من مناخ إلى آخر.
منذ أيام، انطلقت في تونس عروض مسرحية بعنوان "تعارف" للمخرج غسان حفصية على خشبة مسرح "تياترو" في تونس العاصمة، وهو عمل يعود أيضاً إلى نص ياسمينة رضا، وينقله إلى مناخ جديد في تونس، ومعه نكتشف أن نقل الحبكة التي تقترحها الكاتبة المسرحية الفرنسية قابل للغرس أيضاً ضمن المناخ التونسي ببساطة شديدة.
فالواقع التونسي لا يقلّ قابلية لرؤية العنف متفشّياً في كل مكان؛ إنه نص يبرهن بأنه يغوص عميقاً في النفوس البشرية بحيث تبدو السياقات والأطر الزمانية والمكانية مجرّد ديكورات يمكن نسيانها عند استقبال الرسالة الأساسية للعمل، وهي أن العنف كامن في الإنسان المعاصر رغم تلك القشور الكثيرة التي تغطّيه.
تقترح رضا فكرة بسيطة، حيث تنطلق من معركة بين أطفال يعتدي فيها أحدهم على الآخر، وهو ما يتجسّد ضمن المسرحية التونسية في مقدمة تعلو فيها الأصوات والضجيج قبل أن نشهد ظلال أربعة ممثلين من وراء قماشة يتوعّدون بعضهم البعض بالاشتكاء إلى الشرطة، قبل أن تطفأ الأضواء ونفهم أن والدي الضحية قد اختارا عدم الشكوى لكن مقابل ذلك يدعوان والدي الطفل المعتدي للحديث حول ما جرى وكيف يمكن تفسيره.
تبدو بقية المسرحية مثل مشهد واحد، فنحن أمام قاعة جلوس يتحدّث فيها أربعة أشخاص، وفي الوقت الذي تبدو فيه الأمور وقد أخذت مسارها الصحيح، تلقي رضا بمجموعة من العناصر من أجل إظهار أن الجلسة الودية لم تكن سوى حفلة تنكّرية، فمثلاً يرن هاتف والد الأب المعتدي، وهو محام، ومن خلال إجابته على أحد وكلائه نفهم بأنه يقبل بمهمات "الدفاع عن الشيطان" وتزوير الحقيقة من أجل بلوغ أهدافه، وهو ما يلتقطه والدا الطفل الضحية كتفسير لما بدر عن ابنه، مما يشعل الجلسة ويدخلها في مناخ من التهم المتبادلة، وبالتدريج تسقط الأقنعة الاجتماعية لنقف أمام أربع شخصيات تستند إلى العنف في خطابها وحتى حركاته، بل وتبرّره بكل الوسائل. هكذا، وبالتدريج، تتحوّل جلسة الـ"تعارف" - وهو عنوان المسرحية في صيغتها التونسية - إلى "مجزرة"، تلك الكلمة التي اقترحتها رضا في عنوان نصها المسرحي.
وفي الحقيقة، يبدو استدعاء هذه الثيمة راهناً في تونس، فالسنوات الأخيرة شهدت صعود منسوب العنف في الفضاء العام، ومنه في وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث بات من الضروري تفكيك الظاهرة أمام المواطنين.
وهو ما يقترحه هذا العمل المسرحي تحديداً؛ إنه سؤال حول انغراس العنف في الشخصية التونسية، فنحن طوال المسرحية نلتقط الكثير من العبارات التي باتت جزءاً من القاموس العادي للحياة في تونس، والتي يظهرها العمل لبؤر عنف حقيقية، ما يعني بأن اللغة في تونس اليوم كعملة تداول باتت في حدّ ذاتها خزاناً للعنف، وإن كان من الجدير الإشارة إلى أن العنف اللفظي في الشارع التونسي يتجاوز بكثير ما يقترحه العمل حيث تغلب المفردات البذيئة والتجريحية والاستنقاصية في سبيل مغالبة "خصم" على أتفه الأمور.
تقترح المسرحية نهاية صادمة إلى حد ما، ففي اللحظة التي يبلغ فيها التوتر ذروته بين الأولياء الأربعة، لينتقلوا من العنف اللفظي إلى منطقة العنف البدني، يرنّ الهاتف ونفهم من خلاله أن الطفلين اللذين كانا سبباً في جلسة التعارف (التي أفضت إلى معركة) قد عادا إلى اللعب معاً، وقد طويا بكل أريحية صفحة تلك المعركة السابقة.
يذهل هنا الآباء الأربعة وكأنهم وقفوا على درس مخجل من أبنائهم، وهي اللحظة التي يغلق فيها المخرج غسّان حفصية الستارة، وكأنه يترك الشخصيات الأربعة في حيرة لا شكّ وأنها تنتقل إلى المتفرج الذي من المفترض بأنه قد ربط الكثير من عناصر المسرحية بما يعيشه يومياً، سواء في تونس أو في فضاء عربي أشمل.
جسّد شخصيات العمل كلّ من عصام العياري وأميرة خليفي وليلى يوسفي وزياد العيادي، وجميع هؤلاء من جيل مسرحي صاعد في تونس، كما هو الحال مع المخرج غسّان حفصية، بات يقدّم رؤية فنية لا تتطابق بالضرورة مع تقاليد المسرحي التونسي في العقود الأخيرة. رؤية يبرزها هذا الانفتاح على النصوص الأجنبية والقدرة على تطويعها ضمن رؤية محلية.