تقدمت الصين على الولايات المتحدة الأمريكية في تعداد البعثات والمناصب الدبلوماسية على مستوى العالم؛ فبحلول العام الحالي 2019 بلغ إجمالي البعثات والمناصب الدبلوماسية الصينية في العالم (276 بعثة) قابلها (273 بعثة) للولايات المتحدة الأمريكية. ففي حين بلغ تعداد السفارات الصينية في العالم 169 سفارة، فإن تعداد سفارات الولايات المتحدة الأمريكية بقي مستقرا عند 168 سفارة، ثلثها يفتقد السفراء المعينين ليحل محلهم قائم بالأعمال.
لا يقتصر الأمر على السفارات، إذ شهدت الأعوام الثلاثة الأخيرة ارتفاعا في تعداد القنصليات الصينية إلى 96 مقابل 88 قنصلية للولايات المتحدة الأمريكية؛ أرقام تعكس نشاطا دبلوماسيا سياسيا واقتصاديا وثقافيا وسياحيا متصاعدا للصين على المستوى الدولي.
الأرقام نشرها "معهد لوي" الأسترالي في دراسة على
موقعه؛ تعد صادمة. فالصين تتقدم بخطى ثابته ومرونة عالية متجاوزة الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاني دبلوماسيتها من صعوبات تفاقمت في أعقاب وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض في العام 2016. فثلث السفارات الأمريكية (كما ذكرنا سابقا) تخلو من السفراء الذين استقالوا أو أقيلوا أو تقاعدوا أو انتقلوا إلى مناصب جديدة دون وضع بدلاء لهم. والأخطر من ذلك أن أذرع الدبلوماسية الأمريكية الناعمة الممثلة بالمساعدات الاقتصادية عبر الوكالة الأمريكية للتنمية (USAID) كانت عرضة لعمليات تقليص مستمرة، في حين خضعت موازنة وزارة الخارجية المقدرة بـ55 مليار دولار لضغوط مستمرة من إدارة ترامب لتخفيضها على مدى السنوات الثلاث الماضية؛ موازنة تقارب في حجمها موازنة الأجهزة الاستخبارية والأمنية الـ16 المعروفة في أمريكا.
سياسة ترامب وانتكاساته الدبلوماسية سارت بالتوازي مع توجهات صينية لتوسيع نشاطها الدبلوماسي، وتعزيز قوتها الناعمة بأذرع ثقافية واقتصادية، كبرنامج المساعدات تبادل البعثات التعليمية والمؤتمرات والمراكز الثقافية، كـ"معاهد كونفوشيوس" التي باتت منتشرة في عدد من الدول العربية (الإمارات العربية ومصر والجزائر والمملكة المغربية)؛ سياسة جديدة أطلقها الرئيس الصيني "شي جين بينغ" في المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني العام 2017، والتي أطلق فيها استراتيجية جديدة بدأت تتضح أبعادها بالتوسع الهائل في النشاط الدبلوماسي والقنصلي الصيني والثقافي والسياسي؛ الذي تحول بمرور الوقت إلى دبلوماسية تتخذ بعدا شعبيا تخلت عنه الإدارة الأمريكية في وقت سابق، في ما عرف بالدبلوماسية الشعبية.
التوجهات الصينية المنفتحة سارت بالتوازي مع توجهات ترامب الأكثر ميلا نحو العزلة، إذ واصل هجومه على وزارة الخارجية الأمريكية، وتعمد ترك السفارات دون سفراء وممثلين لإدارتها بعد أن واجه صعوبات جمة في اختيار دبلوماسيين، فضلا عن استنكاف الكثير من الدبلوماسيين والكفاءات عن العمل في إدارته؛ خشية على مستقبلهم السياسي والمهني أو لمخالفتهم آراءه وأفكاره البعيدة كل البعد عن العمل الدبلوماسي. فترامب اعتمد بشكل أساسي على خطاب شعبوي غالبا ما تجاوز فيه الأعراف الدبلوماسية أو المعايير المهنية، خصوصا أن أغلب تصريحاته تأتي عبر موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" دون مشاورة للمسؤولين الأمريكان.
مشاكل ترامب مع وزارة الخارجية والقطاع الدبلوماسي تطورت بمرور الوقت بعد تعيينه ريكس تيلرسون، المدير السابق في شركة "إكسون موبيل" النفطية وزيرا للخارجية، على أمل إعادة هيكلة وزارة الخارجية وتطهيرها من الديمقراطيين الذين يسيطرون عليها، بحسب زعمه، إذ سرعان ما اتسعت الفجوة بين ترامب ووزير خارجيته لتفضي إلى استقالة الأخير بعيد انفجار الأزمة الخليجية (حصار قطر)، وإبداء تيلرسون استياءه من دور صهر الرئيس جاريد كوشنر المتصاعد في إدارة ملف الصراع الفلسطيني، بل وملف العلاقة مع دول الخليج العربي وغيرها من الملفات التي قادت إلى استقالته التي اتخذت شكل الإقالة المهينة؛ أثناء جولة لوزير الخارجية في القارة الأفريقية.. إقالة علم بها تيلرسون عبر موقع التواصل الاجتماعي تويتر، بحجة فشله في هيكلة الوزارة وأداء مهامه.
مجيء مايك بومبيو كوزير خارجية لم يقدم الكثير لترامب، فرغم التفاؤل الكبير بوصوله إلى وزارة الخارجية وطاعته العمياء لترامب، لدرجة شبهه البعض فيها بوزير الخارجية الأمريكي جورج شولتز في عهد الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان، مقابل تشبيههم تيلرسون بألكسندر هيغ الذي أقاله ريغان لعدم الانسجام بينهما في حينه، إلا أن بومبيو لم يحقق النجاح الذي حققه شولتز.
فالانسجام مع ترامب ليس كافيا، وطاعته المطلقة أدخلت بومبيو في إشكالات معقدة؛ كان آخرها تسريب أنباء عن تواصله مع محامي الرئيس الأمريكي رودي جولياني، لتقديم معلومات عن
نشاطات "هنتر" الاقتصادية في أوكرانيا، وهو أحد أبناء جو بايدن منافس ترامب المتوقع في الانتخابات الرئاسية؛ تسريبات أدت إلى تسليط الأضواء على دور بومبيو في فضيحة المكالمة الهاتفية الشهيرة بين ترامب الرئيس الأوكراني زيلنيسكي. فبومبيو سرعان ما عانى من أزمات متتالية، وبات المرشح رقم 70
للاستقالة من طاقم إدارة ترامب بحجة ترشيح نفسه لانتخابات ولاية كنساس لعضوية مجلس الشيوخ.
تبني بومبيو الكامل لسياسة ترامب والطاعة المفرطة للرئيس؛ أفضت إلى أزمة هددت مكانة بومبيو الذي حل مكان تيلرسون. إذ لم يكن محظوظا كشولتز في علاقته مع ريغان. فأزمة الخارجية الأمريكية غير مسبوقة؛ تفاقمت بمرور الوقت باستقالة عدد من السفراء احتجاجا على سياسات الرئيس، كان آخرهم السفيرة الأمريكية في أوكرانيا ماري يوفانوفيتش، بعد فضيحة لمكالمة مع زيلنيسكي، والتي اتهمها ترامب بأنها رفضت وضع صورته في السفارة.
فأزمة الدبلوماسية الأمريكية باتت عميقة، وزعزعت أركان الدبلوماسية الأمريكية وهيكلها، ما دفع وليام بيرنز، المساعد السابق لوزير الخارجية الأمريكي والبيروقراطي المخضرم المتقاعد بعد 35 عاما من العمل، إلى التحذير من أزمة عميقة في الخارجية الأمريكية، وخراب يصعب معالجته بين يوم وليلة، مذكرا في مقال له بمجلة فورين بوليسي تحت عنوان "هدم الدبلوماسية الأمريكية" (The Demolition of U.S. Diplomacy)، بالدمار الذي ألحقة المحقق الفيدرالي مكارثي بالخارجية الأمريكية في الخمسينيات من القرن الماضي.
في هذا السياق، فإن دراسة "معهد لوي" الأسترالي جاءت لتؤكد الحقائق المتغيرة والمضطربة للدبلوماسية الأمريكية، ولكن من خلال لغة الأرقام والإحصاءات. فالدراسة لم تسلط الضوء على خلو ثلث السفارات الأمريكية في العالم من سفراء واعتمادها على القائمين بالأعمال، كحال السفارة الأمريكية في الأردن التي خلت من منصب السفير لفترة تقارب الثلاثة أعوام؛ تبعت مغادرة السفيرة أليس ويلز عمان إلى أرفع في الخارجية الأمريكية. فرغم عمق العلاقات بنين البلدين واستراتيجيتها، سيطر الفراغ على واحدة من أهم البعثات الدبلوماسية (في الشرق الأوسط)؛ إذ أعلن البيت الأبيض مؤخرا تعيين سفير فوق العادة يتمتع بمؤهلات عالية، في خطوة متأخرة جاءت لتدارك الأوضاع المتدهورة في العراق وسوريا ولبنان. إذ بات النشاط الدبلوماسي الأمريكي مقيدا إلى أقصى الحدود بفعل الأزمة والتوتر القائم في البلدان المذكورة.
دراسة معهد لوي أكدت صعود الصين السريع في مراتب الشبكات الدبلوماسية عام 2019، باستحداثها مناصب دبلوماسية في بلدان كانت تعترف في السابق بتايوان؛ الجزيرة التي تعدها الصين جزء من أراضيها، عاكسة بذلك مرونة عالية باتت تتمتع بها الدبلوماسية الصينية على غير العادة، وكاشفة عن تعثر أمريكا وإرباك كبير في شبكاتها الدبلوماسية.
ختاما: الدبلوماسية الأمريكية تخوض معركتها الأخيرة في المنطقة بشكل دفع مسؤولين عسكريين، كالجنرال كينث ماكنزي، قائد المنطقة المركزية، إلى إطلاق تصريحات ذات أبعاد سياسية وأمنية في المنطقة. فالقنوات الدبلوماسية الأمريكية معطلة وتعاني من الضعف والإجهاد؛ عكسته الرغبة القوية لدى بومبيو للتنحي عن منصب وزير الخارجية، كما كشفته الجهود المتعثرة لدفع الأطراف المتنازعة في ليبيا للجلوس على طاولة المفاوضات في برلين.
فالدبلوماسية الأمريكية متأخرة وتنزع إلى إعلان حالة الطوارئ لمعالجة الآثار الناجمة عن تراجع الفاعلية وصعود فاعلين جدد. فالتراجع الأمريكي صادف صعودا صينيا سرعان ما بات قادرا على ملء الفراغ، وهو الخبر السيئ الذي كشف عنه "معهد لوي". كما كشفت التقديرات المتعددة التي تؤكد تنامي قوة وتأثير البعثات الدبلوماسية الصينية في الإمارات العربية ومصر وإثيوبيا والمغرب والجزائر؛ صعودا يسير في خط متواز مع تنامي أذرعها الثقافية والمالية والتجارية.