العداوة أول طريق السلام

اشتُهر عن المُنظّر السياسي توماس هوبز قوله "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، وكان يشير بقوله إلى أن الإنسان في حالة عداوة دائمة مع الغير بسبب طبيعة النفس التي تجنح إلى الأنانية. وكان هذا الفهم أحد مدخلات تشكيل نظرية العقد الاجتماعي، التي تم بمقتضاها تنازل المجتمع عن بعض حرياته، مقابل تنظيم بعض الأفراد داخل المجتمع شؤون الباقين، لكن ما يعنينا هنا مفهوم هوبز عن الصراع في الطبيعة البشرية.

يمكن القول بأن السلوك العام لآحاد البشر يهدف إلى التوسع، إما التوسع في الثروة، أو السلطة، أو الوجاهة الاجتماعية أو غير ذلك، ويعتمد هذا التوسع على أمرين، القوة الذاتية للراغب في التوسع، ومقدار الضعف عند المتوَسَّع على حقه، فإذا كان الأخير ضعيفا يمكن للقوي أن يملأ مجاله الحيوي، ومقدار الصلابة التي يبديها أمام العدوان عليه هو الذي يحدد ما سيؤخذ من مجاله الخاص، وما لن يؤخذ. وقد يكون لدى أحدهم رغبة في التوسع، لكنها تظل مكبوتة لأن المساحة المرغوب في اقتطاعها مُصانة بقوة صاحبها، فلا يحدث اعتداء أصلا. وعدم العدوان ليس ناشئا من الرغبة في السِّلْم بقدر ما هو نابع من خشية الخصم، وحالة التعادل في القوة هذه هي أصل السلام وليس شيئا آخر.

على مدار التاريخ البشري قامت الحروب لأجل التوسع، ونجحت دول في السيطرة على أغلب الأنحاء المسكونة في الدنيا، لكنها تفككت فيما بعد، وسقطت دول في فخ التوسع، ولم تخرج منه إلا مذلولة بعدما كانت قوة. وألمانيا هي المثال الأبرز في العصر الحديث على الاندفاع في التوسع العسكري أو الجغرافي، وانتهت تلك الفورة بهزيمة مذلة. فعلت ذلك في الحربين العالميتين، لتكون بعد تلك الجولتين الدمويتين إحدى دول التوازن العالمي، وأيقنت وخصومها وشركاؤها أن محاولات كسرص توازن القوة، وهيمنة واحتكار أحد الأطراف لمسار العلاقات الدولية، لن يؤدوا في النهاية إلا إلى الخراب والدمار، فأنتجت العداوة الشديدة سلاما خالصا.

 

 

كل محاولات إقصاء طرف من أطراف أي معادلة باءت بالفشل، خاصة إذا كان الطرف المرغوب في إقصائه قويا، وله ثقل في محيطه

يخبرنا التاريخ أن كل محاولات إقصاء طرف من أطراف أي معادلة باءت بالفشل، خاصة إذا كان الطرف المرغوب في إقصائه قويا، وله ثقل في محيطه، قد يتراجع وقد يخسر جولة أو جولات، لكن في النهاية وبعد خسائر غير اعتيادية لكل الأطراف، سواء كانت قوية أو ضعيفة، يعود الجميع إلى التفاهم بمقدار وزن كل طرف، وبمقدار ما قد يُحدثه عدم الاتفاق من أضرار تستوجب التنازل.

كانت التجربة الأوروبية مريرة طوال فترة ما سمي بالإصلاح الديني، ثم اندلعت حرب الثلاثين عاما التي توّجت قرنا من الصراع، وانتهى كل ذلك بالإقرار بحقوق كل طرف داخل الصراع، فأصبحت العداوة مدخلا للسلام بعد التيقن من عدم إمكانية محو أحد المكونات الاجتماعية في القُطر الواحد أو عموم الإقليم.

ومؤخرا دخلت دول الحصار ضد قطر في حالة عداوة شرسة ضد النظام القطري، وبعد استعصاء قطر على الكسر بدأت المملكة السعودية في التفاهم من جديد، والرجاءُ أن تنتهي تلك النقاشات بتفاهم ينهي الأزمة.

كذلك، نشأتْ في مصر عداوة بين نُظم ما بعد الاستقلال وبين التيار الإسلامي، ثم تراجع نظام السادات عن الصدام وبدأ في محاولة احتواء، وبعد اغتياله قام نظام مبارك بغض الطرف عن النشاط الاجتماعي والسياسي بقدر محدود، لنصل إلى مرحلة الثورة التي حملت الإسلاميين إلى رأس النظام السياسي، ثم دخلنا في مرحلة عداوة جديدة أشد ضراوة بعد الانقلاب العسكري.

 

رغم حالة الهجوم الإعلامي غير المسبوق، فقد خلص استطلاع سابق لمعهد واشنطن إلى أن ثلث المصريين لا يزالون يؤيدون الجماعة، فهذا التواجد المتجذر في الحالة المصرية لا يمكن إنهاؤه بقرار سياسي أو بضربات أمنية

وربما يستدعي هذا الحديث النظر إلى الحالة المصرية وما أفرزته بعد انقلاب 2013، إذ استعصى على النظام كسر جماعة الإخوان المسلمين تحديدا والتيار الديني الإسلامي بشكل عام، ولم يعد ممكنا إقصاؤهم من المشهد المصري العام، بل لا زال لهم حضور عبر وسائل الإعلام الخارجية، كما أن محبيهم وداعميهم يمكن تقديرهم بالملايين، ورغم ذلك لا يزال رأس النظام المصري مُصرّا على محاولة إقصائهم ونفيهم تماما من التفاعلات المصرية. ورغم اعتقال كل قياداتهم، والمفاصل التنظيمية، وزج الآلاف منهم في السجون، فلا يزال التنظيم متواجدا ولو بضعف كبير مقارنة بما قبل الانقلاب.

ورغم حالة الهجوم الإعلامي غير المسبوق، فقد خلص استطلاع سابق لمعهد واشنطن إلى أن ثلث المصريين لا يزالون يؤيدون الجماعة، فهذا التواجد المتجذر في الحالة المصرية لا يمكن إنهاؤه بقرار سياسي أو بضربات أمنية، بل لا بد من الاستفادة منه واحتواؤه.

هذه هي سنة التاريخ على الأبد، لا يمكن قهر قوة لها تواجدها وميزانها في محيطها، وعين الحُمق محاولة خرق سنة مستقرة على مدار التاريخ البشري، خاصة أن المحاولة تُدفع تكلفتها بالدماء، والمحصّلة النهائية هي التفاهم والسلام، وما أغنى من بذلوا أرواحهم وأموالهم عن هذا البذل ابتداء إذا كانت النهاية واحدة.