ما أشبه اليوم بالبارحة.. مثل يلخص مشهد
العلاقات الإيرانية الغربية، بعدما فشل الاتفاق النووي المبرم عام 2015 في إحداث اختراق ما في التوتر القائم بين الطرفين منذ أربعين عاما بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979، ليضيف الاتفاق نفسه والتطورات المرتبطة به؛ عنوانا خلافيا آخر إلى صندوق عناوين الخلاف المركبة بين طهران والعواصم الغربية، وخصوصا واشنطن، حيث ما بعد الاتفاق كما قبله، بل الأسوأ، ليتدحرج المشهد بصورة دراماتية إلى مرحلة هي الأخطر من سابقاتها.
أمام هذا الواقع، ترى السياسة الإيرانية في الاستدارة نحو الشرق وخصوصا الشرق المحيط بها، أي الجيران، خيارا ملحا وضروريا، بغية تنويع خيارات إيران الخارجية وتحريك مختلف اتجاهات سياستها الخارجية، وتعزيز موقعها في السياسة الدولية في المواجهة الراهنة المتصاعدة مع الولايات المتحدة وأوروبا، والحفاظ على مكتسباتها الخارجية في منطقة الشرق الأوسط على ضوء احتدام التهديدات ضدها في ساحات المواجهة المتعددة، وكذلك للبحث عن منافذ اقتصادية؛ هي بحاجة ضرورية إليها اليوم لتدعيم موقفها داخليا وخارجيا ومقاومة الحرب الاقتصادية التي تشنها عليها واشنطن، التي تستهدف كافة مفاصل الاقتصاد الإيراني ومقوماته، لتخلق ظروفا اقتصادية صعبة للبلاد.
هذا السياق يشكل واحدا من السياقات الثلاثة
لزيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني، إلى اليابان، يوم الجمعة الماضي، وهي استدارة مدفوعة بتعليمات رأس هرم السلطة في إيران، المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، إذ دعا الحكومة الإيرانية، في شباط/ فبراير 2018، إلى "ضرورة تفضيل الشرق" عند حديثه عن أولويات العلاقات الخارجية الإيرانية.
أما السياق الثاني لزيارة روحاني، فهو مرتبط بالسعي لتعزيز العلاقات الثنائية مع
اليابان، في مطلع عقدها التاسع، وهو السياق الذي يؤكد عليه المسؤولون الإيرانيون، مع نفي أن تكون الزيارة بهدف التحضير لمفاوضات مع واشنطن. وفي هذا الإطار، تعتبر الزيارة هي الأولى لرئيس إيراني لبلاد الشمس المشرقة منذ قرابة عقدين تقريبا، ردّ بها روحاني على زيارة "تاريخية" لرئيس الوزراء الياباني شينزو آبي لطهران خلال نيسان/ أبريل الماضي، كانت أيضا الأولى من نوعها بعد قيام الثورة في إيران منذ أربعين عاما.
إلا أن هذه العلاقات، وهنا المقصود بعدها الاقتصادي، وهو الأكثر أهمية وحساسية اليوم لإيران في الظروف الراهنة، تراجعت بشكل كبير خلال العامين الأخيرين تحت تأثير
العقوبات الأمريكية، حيث دفعت الولايات المتحدة حليفها الأبرز في شرق آسيا (اليابان) إلى تصفير شراء النفط من إيران، بالتالي فإن أحد أهم أهداف زيارة روحاني في هذا السياق، هو إيجاد شرخ في جدار التحالف الأمريكي الياباني، وحث طوكيو على استئناف شراء النفط الإيراني ربما من خلال عروض مغرية في ما يتعلق بالاستثمار في إيران أو أسعار النفط وما شابه ذلك.
لكن لا تبدو مهمة روحاني سهلة في هذا الصدد، بل إنها صعبة للغاية إن لم تكن مستحيلة، إذ أن
المصالح الاقتصادية بين طوكيو وواشنطن متشابكة جدا وواسعة، تبلغ حوالي 200 مليار دولار سنويا، بينما حجم التبادل التجاري بين طهران وطوكيو خلال السنوات الماضية وصل إلى ثلاثة مليارات دولار في أحسن أحوالها، بالتالي فإن اليابان رغم علاقاتها السياسية الطيبة والتاريخية مع إيران، من المستبعد أن تضحي بمصالحها الاقتصادية الكبيرة مع الولايات المتحدة، بغية الحفاظ على هذا القدر الزهيد من التبادل التجاري مع إيران، أو بهدف زيادة الاستثمار فيها أو مواصلة استيراد النفط منها، رغم حاجتها الملحة له.
فضلا عن ذلك، فإن اليابان تربطها أيضا مصالح أمنية قوية بالولايات المتحدة لا يمكنها التغاضي عنها، وهي ترتبط بالتوتر القائم منذ عقود في علاقاتها مع كوريا الشمالية، الأمر الذي يجعل طوكيو في حاجة مستمرة للدعم الأمريكي أمنيا وعسكريا وسياسيا في المواجهة مع بيونغ يانغ. وهذه المصالح المتشابكة، سواء الاقتصادية أو الأمنية، والتي تتملك واشنطن اليد العليا فيها، تكبّل أيادي اليابان للعمل بمفردها بمعزل عن الإرادة الأمريكية في التعامل مع طهران.
لكن على الرغم من ذلك والتزام اليابان التام بمقتضيات مصالحها مع أمريكا، أطلقت الحكومة اليابانية ورئيس وزرائها شينزوا آبي حراكا دبلوماسيا، خلال الشهور الماضية، للتوسط بين طهران وواشنطن، بغية خفض التوتر بينهما وشق طريق لجمع الطرفين على طاولة تفاوض، وهو حراك مدفوع بالأساس بثمة معطيات مهمة، منها رغبة طوكيو الجامحة في الاستثمار في الأسواق الإيرانية الجذابة، وخاصة سوق الطاقة، واستئناف استيراد النفط من إيران، لاعتماد اليابان على ذلك على مدى العقود الماضية، حيث كانت الوجهة الرابعة للصادرات النفطية الإيرانية قبل بدء سريان الحظر الأمريكي الشامل على النفط الإيراني اعتبارا من الثاني من أيار/ مايو الماضي، أيضا وجود مخاوف حقيقية لدى اليابانيين من احتمال تصاعد الصراع الأمريكي الإيراني إلى نزاع مسلح، يعرّض مصادر إمدادهم بالنفط الشرق الأوسطي لخطر وجودي، بما يبطئ عجلة اقتصادهم الطامح إلى الصعود المستمر.
كل هذه العوامل، بالإضافة إلى رغبة وضوء أخضر أمريكيين في قيام طوكيو بدور لإقناع طهران بالجلوس على طاولة التفاوض، كانت حاضرة في الحسابات اليابانية حينما قررت حكومتها إطلاق جهود الوساطة، التي كانت زيارة شينزوا آبي لطهران أهم محطاتها، لكنها أخفقت في إحراز تقدم.
ومن هنا يبرز السياق الثالث لزيارة روحاني لطوكيو، وربما هو السياق الأهم الذي أرادته الحكومة اليابانية، أي سياق الوساطة التي تقوم بها، على أمل أن يسجل اختراق في المواقف الإيرانية الرافضة لأي تفاوض مع الإدارة الأمريكية. كما أن الضيف الإيراني أيضا كان معنيا وربما متحسما لهذا السياق، علّه يسمع من آبي شيئا جديدا في ما يتعلق بالموقف الأمريكي من العقوبات واحتمالات رفعها أو تخفيفها، لكن تصريحات روحاني وآبي بعد لقائهما، لا تلمح لوجود بوادر انفراج في التوترات القائمة بين طهران وواشنطن.
وعليه، وإن نقل رئيس الوزراء الياباني أي رسائل أمريكية جديدة للرئيس الإيراني، إن كانت هناك رسائل بالفعل، فعلى الأغلب أنها متكررة، ترتبط بوعود أمريكية مؤجلة التنفيذ إلى ما بعد بدء التفاوض مع إيران، أو تتصل بتهديدات وتحذيرات تعودت الإدارة الأمريكية على نقلها خلال الشهور الماضية لإجبار طهران على القبول بالتفاوض، وهو ظلت ترفضه، رابطة ذلك بجملة شروط مسبقة، تتلخص في عنوان واحد، هو العقوبات الأمريكية الشاملة التي تعتبرها إيران جذور التوترات في المنطقة، أي من دون حلها لا حل لأي ملف يرتبط من قريب أو بعيد بالصراع بينها وبين أمريكا وحلفائها.
كما أن هذه العقوبات أيضا في ظل عولمة الاقتصاد في عالمنا المعاصر اليوم والتشابك الوثيق في المصالح الاقتصادية بين الشرق والغرب، تشكل عقبة أمام استراتيجية توجه إيران نحو الشرق، لتجعل من الصعب بمكان أن يكون لها مردود اقتصادي كبير، ما دامت العقوبات قائمة، رغم أن هذا التوجه من شأنه أن يعزز العلاقات السياسية والأمنية، لكن الاقتصاد له قصة مختلفة اليوم، بحيث لم يعد يخضع في العلاقات بين الدول لتلك المؤثرات والعوامل التي كانت تتحكم في مسار هذه العلاقات قبل الألفية الثالثة.
فأن تكون دول متحالفة سياسيا، تربطها مواقف مشتركة من الهيمنة الأمريكية، لا يعني ذلك أن السلوك الاقتصادي لهذه الدول في هذه المواجهة سيكون نسخة طبق الأصل لمواقفها السياسية، بل في كثير من الأحيان هناك تباين وتعارض أساسي بين الموقفين السياسي والاقتصادي لها. وخير مثال على ذلك، هو الموقف السياسي لدولة كالصين في رفض الهيمنة الأمريكية، ووقوفها مع إيران في الموقف من الاتفاق النووي، في حين أن موقفها الاقتصادي العملي شيء مختلف، حيث أصبحت ملتزمة بالعقوبات الأمريكية ضد إيران بشكل أو آخر، لتقلل شراء النفط منها وتنسحب شركات لها من الأسواق الإيرانية، كما هو الحال بالنسبة للعلاقات الإيرانية اليابانية أيضا، إذ على رغم من أنها وطيدة سياسيا، لكنها اقتصاديا تسلك مسارا مغايرا، حيث لا تعكس العلاقات الاقتصادية الروح الحاكمة على مجمل العلاقات السياسية بينهما وفي تعارض بين معها.