أكثر من يشعر بقيمة الحرية هو السجين، وحين يخرج المرء من بين الأسيجة والجدران إلى رحاب أرض الله الواسعة يختلط عليه الشعور بين فرحة الحرية والأسى على حرمان الناس في وطنه من هذا الحق البسيط.
هذا ما حدث معي في مطارات
أوروبا وأنا القادم من غزة؛ التي حولتها دولة الاحتلال
الإسرائيلي إلى معسكر احتجاز وحرمت أهلها من حقهم الطبيعي في حرية الحركة.
في مطار برلين أو بروكسل أخرج من باب الطائرة إلى الشارع مباشرة، لا يعترضني ضابط أمن لسؤالي عن جواز سفري، أحدث أصدقائي ساخرا : لا تحتمل نفسي كل هذا القدر من السهولة! أهمّ أن أبحث عن ضابط قريب وأسأله إن كان يريد أن يرى جواز سفري لعله يشعرني بهيبة السفر فيعيد إليّ توازني النفسي!
في الطريق البري من ألمانيا إلى التشيك ثم من التشيك إلى النمسا؛ لا أرى أي حدود أو معالم تعرّفني بأني أنتقل إلى بلد جديد، الوسيلة الوحيدة التي أعرف بها أني دخلت حدود بلد جديد هي رسالة ترحيب تصل عبر بطاقة الهاتف المحمول!
هنا فضاءات متعددة للحرية عدا حرية الحركة. يمكن للمرء أن يعيش حياته وفق اختياره بعيداً عن إكراهات المجتمع وأنماطه الجاهزة، لا تتدخل الدولة في الطريقة التي يختارها الأفراد لحياتهم ما داموا ملتزمين بالقانون وبدفع الضرائب.
قدرة الفرد على أن يعيش الحياة التي يريدها تنتج الإنسان القوي المبدع التلقائي، فهو لا يشعر أنه مراقب من سلطة المجتمع ومهدد بالمحاكمة كل لحظة إن خرج عن المعايير السائدة، فيعبر عن ذاته بقوة وأصالة ولا يجد نفسه مضطرا لانتحال هوية مزيفة.
لكن الحياة الإنسانية لا تكتمل هنا، فالثقافة الرأسمالية نالت من دفء العلاقات الإنسانية، وصراع الناس في سوق العمل حوّلهم إلى ما يشبه آلات الإنتاج، يخرجون باكرا في الظلام ويعودون إلى بيوتهم في الظلام، فلا يجدون وقتا كافيا لمجالسة أطفالهم، وثقافة التعاون بين الجيران والأقارب ليست حاضرة بالدفء الذي نلمسه في بلادنا المشمسة، فلا يعيش الشاب والفتاة مع آبائهم إذا وصلوا إلى عمر القدرة على الاعتماد على النفس، ولا يعيش كبار السن مع أبنائهم في ذات البيت إذا وهن العظم منهم وكانوا في حاجة إلى الرحمة والحنان.. هنا يجب أن يظل الإنسان قويا منتجا طيلة حياته حتى يشعر بقيمة وجوده. ولا ريب أن ثقافتنا الشرقية أشد حنانا ورحمة تجاه الإنسان حين يتوقف عن كونه آلة إنتاج وتبقى فيه إنسانيته المجردة دون إغراء.
اعتماد الناس على أنفسهم في الثقافة الغربية قيمة إيجابية، وضعف روابط الرحمة العائلية قيمة سلبية، والمنهج القويم هو أن ننتفع من القيم الإيجابية عند الآخرين دون أن نغفل عن القيم الإيجابية عندنا.
في السياسة لا تبدو أوروبا متصالحة مع قيمة الحرية التي تعدها عمادا لحضارتها، ليس بوسع المرء أن ينتقد المستعمرة الصهيونية في
فلسطين بأريحية، ثمة محاذير كثيرة؛ فتهمة معاداة السامية تمثل قيدا ثقيلا يعوق أي نقاش موضوعي لمسألة فلسطين، وكثير من الأوروبيين يخلطون بين معاداة اليهود وبين رفض المشروع الصهيوني الاستعماري. لا أعلم إن كان هذا الخلط صادرا عن إسقاط الوعي الغربي لتجربته الخاصة مع اليهود على قضية فلسطين.
كثير من الأسئلة التي سمعتها في أوروبا تدلل على غياب أسس الفهم الصحيح لمسألة فلسطين؛ فأكثر من واحد سألني: لماذا لا تصنعون السلام مع إسرائيل؟ سيدة ألمانية كبيرة في السن أوشكت أن تلغي حجز قاعتها التي سألقي فيها محاضرة عن فلسطين، بحجة أنها لا تريد استضافة أشخاص لا يعترفون بحق اليهود في وطنهم، ذات السيدة سألتني لاحقا: لماذا تدعو إلى مقاطعة إسرائيل؟ أليس هذا موقفا عدائيا؟ لماذا لا تتحاورون معهم؟
هذا النوع من الأسئلة يؤشر على غياب في الوعي العام لحقيقة إسرائيل بأنها دولة تقوم على التهجير والاحتلال، وأن الفلسطينيين يناضلون بشكل طبيعي مثلما تفعل كل الشعوب حين تتعرض للتهجير والاحتلال والفصل العنصري. وجدت نفسي مضطرا في كل مرة للتأكيد على أننا لا نحمل موقفا عدائيا من اليهود من حيث كونهم عرقا أو دينا، إنما نحن ضد الاحتلال والتهجير والتمييز.
من أهم الاختبارات الراهنة لقياس مدى تصالح أوروبا مع قيمها المدنية هو التعامل مع حركة المقاطعة الدولية (BDS). فهذه الحركة هي مجموعة من النشطاء الذين يناصرون فلسطين بوسائل سلمية خالصة ويرفعون مطالب تستند إلى
حقوق الإنسان.. هذه الحركة لا تدعو إلى تدمير إسرائيل والقضاء على اليهود، إنما تدعو إلى مطالب ثلاثة، هي حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، وإنهاء التمييز العنصري الممارس ضد فلسطينيي الداخل؛ الذين يعتبرون وفق القانون الاسرائيلي مواطنين إسرائيليين لكنهم لا يمنحون حقوقا متساوية مثل المواطنين اليهود. والوسيلة المتبعة من حركة المقاطعة هي الدعوة لمقاطعة إسرائيل لإلزامها بتطبيق القانون الدولي.
رغم هذا الوضوح الحقوقي في عمل "BDS"، إلا أنها تتعرض لمضايقات شديدة في الساحة الأوروبية، وتُقدم مسودات في البرلمانات الأوروبية لنزع الشرعية القانونية عن عملها، ولو تم حظر هذه الحركة فسيمثل هذا الحظر ردة فاضحة من أوروبا مع قيم حقوق الإنسان وحرية التعبير التي تستند إليها.
الغياب الواضح للرواية الفلسطينية في المجتمعات الغربية ينبغي أن يستفزنا إلى عمل أكثر جذرية وأشد كثافة؛ يجرد المسألة إلى كونها مسألة نضال شعب من أجل حقه في الحرية والكرامة، وإنهاء مشروع التهجير والاحتلال والتمييز العنصري، وتحقيق المساواة لكل الناس دون تمييز على أساس لون أو عرق أو دين.