تشهد مختلف دول
العالم احتجاجات واسعة النطاق، وتظاهرات كبيرة استمرت لأشهر عدة، فيما دخلت دول جديدة من مختلف مناطق العالم على خط موجة الاحتجاجات. تشترك معظم هذه الحركات الاحتجاجية، في الكثير من النقاط، ليس فقط لكونها تحدث في الوقت ذاته، وإنما للتشابه الكبير في المطالب والأهداف.
أغلب الأفكار والإحباطات الكامنة لدي الشعوب، كانت متشابهة، أيضا أساليب الحراك عبر منصات التواصل الاجتماعي.
فورين بوليسي:
نشرت مجلة "فورين بوليسي"، تقريرا حول الاحتجاجات التي شهدها العالم خلال العام
2019، قالت المجلة في التقرير الذي نشرته على موقعها الالكتروني: عام 2019 سوف يُذكر على أنه عام الاحتجاجات التي اجتاحت العالم، من هونج كونج إلى الشرق الأوسط، ومن شمال أفريقيا إلى أوروبا، وأمريكا اللاتينية، والتي احترقت فيها الشوارع حرفيا في كثير من الأحيان.
بعض هذه الاحتجاجات الشعبية لا تزال مستمرة، كما هو الحال في هونج كونج، مع عدم وجود نهاية واضحة في الأفق، والبعض الآخر ما زال يحدوها الأمل في إعادة الزخم للتظاهر، وإحياء الثورة التي أجهضت، كما هو حال الثوار في مصر.
وفي بعض الحالات يبدو أن المحتجين قد انتصروا، كما هو الحال في تشيلي، حيث انتهى الغضب من رفع أجرة المترو "بدستور جديد" أكثر تطورا.
لكن في حالات أخرى، سواء في السودان أو في الجزائر، ربما أطاح المحتجون بالقادة المنبوذين من نظم الحكم العتيقة، إلا أنهم ليست لهم القدرة على إحداث تغيير جذري أو فرعي في الحكومة، ولا الغطاء السلطوي الذي يستمد قوته من الدولة القمعية القديمة؛ والمدعومة من الولايات المتحدة.
تونس:
كانت الشرارة الأولى في العالم العربي، في تونس، حين أضرم "محمد البوعزيزي" النار في جسده، من ثورة الغضب التي اجتاحته، واجتاحت جل الشعوب العربية من بعده، على مصادرة المسؤولين لمصدر رزقه؛ والذي كان يمثل "عربة صغيرة لبيع الخضروات والفواكه"، وذلك في 17 كانون الأول/ ديسمبر عام 2010.
توالت الحركات الشعبية، أعظمها أثرا في مصر في 25 كانون الثاني/ يناير عام 2011، وسوريا وليبيا والبحرين واليمن، ولاحقا في بلدان عربية أخرى، ولم تنته بعد حتى نهاية العام 2019.
تباينت النتائج من بلد لآخر، وكذلك طبيعة ردود فعل الأنظمة عليها، والعمل على إجهاض العديد من تلك الثورات، أو الالتفاف على مطالبها، وعودة النظم المستبدة لتولي زمام الحكم بأسماء متغيرة؛ والتي ثارت عليها تلك الشعوب.
لقد ظن الكثيرون أن هذه "الثورات العربية" أُجهضت في مهدها، وطوى التاريخ هذه الصفحة إلى الأبد، لكن لم يمض وقت طويل حتى بانت في الأفق موجة أخرى من الحراك الشعبي، في دول عربية أخرى، وهي السودان والجزائر، وإحداث نقلة نوعية، في فهم الشعوب لمكمن الفساد السياسي، المتمثل ليس في الفساد الاقتصادي فحسب، بل الطائفية البراغماتية الانقسامية؛ والتي ثارت ضدها الشعوب في العراق ولبنان. لقد سلطت الاحتجاجات من العراق إلى لبنان، ولأول مرة، الضوء على الاستياء الشعبي من ملوك الطوائف، والتحريض على الكراهية.
تشيلي:
في أمريكا اللاتينية، كان هناك الكثير من الاضطرابات، التي تبعها العديد من الاحتجاجات، سواء كان ذلك الاستياء من الطبقة السياسية المتغطرسة في بوليفيا، أو من الفساد المتفشي في الأكوادور، أو خيبة الأمل من النموذج التشيلي للتنمية الاقتصادية؛ الذي كان في وقت ما موضع للتفاخر، وضرب الأمثال.
من الضروري عدم تفسير الاحتجاجات حول العالم، على أنها ضمن مفاهيم القيم الأمريكية لمكافحة عدم المساواة، بل يعد الفساد الاقتصادي الهائل؛ الذي يتبعه حرمان اقتصادي، وتردي مستوي المعيشة، هو أحد الأسباب الرئيسية لهذه الاحتجاجات، ولكن عند التدقيق في أسبابها في البلدان المختلفة، نجد أنه لا الحرمان المطلق ولا عدم المساواة يفسران الكثير منها، فالاحتجاجات التي تشهدها هاييتي، وهي الدولة الأفقر في نصف الكرة الأرضية، والأداء السياسي فيها هو الأكثر اختلالاً في العالم، يعود لسوء الأوضاع الاقتصادية بها، وعلى العكس من ذلك، نجد تشيلي الدولة الأكثر ثراءً في أمريكا اللاتينية؛ والتي تتصاعد فيها معدلات المساواة والعدالة الاجتماعية، وتتصاعد معها
المظاهرات، لارتفاع سقف التوقعات لدى الجماهير الثائرة، بمستوى معيشي مرتفع، وفقا لمعدلات النمو الاقتصادي المرتفع أيضا.
السترات الصفراء:
أوروبا هي الأخرى شهدت عدم استقرار، عندما اندلعت احتجاجات "السترات الصفراء" في فرنسا، التي ثارت لسبب واحد في بداية الأمر؛ والذي يتمثل في معارضة الضريبة على الوقود، ثم توسعت وازدادت عنفا بمرور الأيام، كما ارتفع مستوى المطالب، ليصل إلى مطالبة الرئيس الفرنسي بالتنحي عن المنصب، هذه الاحتجاجات المختلفة، امتدت لتشمل العديد من المدن والدول الأوروبية الأخرى، شملت هولندا وبلجيكا والنمسا وصربيا وهنغاريا.
لكن هناك أمرين يجمعان فيما بينها، الأول أصبح رمزا لكل هذه الاحتجاجات والتظاهرات وهو "السترات الصفراء"، أما الثاني فهو أنها بدأت واستمرت من دون زعامات أو قيادات تنظيمية، وانتشرت وتشابكت عبر منصات التواصل الاجتماعي.
ارتفاع الأسعار:
من الملاحظ، أن الموضوع المتكرر في أغلب هذه المظاهرات هو نفسه، فأسباب اشتعال الحراك تكون بداية على زيادة الأسعار. ففي السودان كانت إعانات الغذاء والوقود هي الشكوى الرئيسية، وفي الأكوادور وهاييتي، كانت النقطة المحورية في الاحتجاجات هي المطالبة بعودة دعم الوقود، أما في تشيلي فهم يحتجون على رفع أجرة مترو الأنفاق.
وفي لبنان، خرج المواطنون بسبب غضبهم من فرض ضريبة جديدة على استخدام تطبيق "واتساب" الالكتروني، وفي أوغندا، وجود ضريبة على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
هناك اتجاهاً عالمياً لاستمرار الزيادات في الأسعار، وفي المقابل، الرفض الشعبي والتظاهرات المستمرة لدى شعوب البلدان المختلفة.
الإنترنت:
في الماضي، كان يمكن تنظيم المظاهرات العمالية، على الطراز القديم في مكان العمل، أو المصنع نفسه، وذلك من خلال التقنيات الميدانية التي كانت تُستخدم قبل دخول الإنترنت، حيث المفاهيم المشتركة بين العمال، والكم الهائل من الشبكات الاجتماعية؛ التي تجمعهم معا، بما في ذلك الاتحادات العمالية، والتنظيمات الفكرية.
أما اليوم، فأولئك الذين يعانون من زيادة الأسعار حول العالم؛ لا يعرف عادة بعضهم البعض، ولا تكون لديهم روابط اجتماعية مشتركة، ولكن القاسم المشترك هو أن الجميع يشتري الوقود والمحروقات، ويعاني من ارتفاع أسعارها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فكان من السهل والممكن، عبر الإنترنت، تعبئة المشاعر والتحريض لتنظيم الاحتجاجات، واندلاع الثورات عبر العالم من خلال الشبكة العنكبوتية.
مع اعتبار ارتفاع الأسعار، هو الموضوع المشترك بين هؤلاء المتظاهرين، بمعنى آخر، يبدو أن الاحتجاجات العمالية، لم تعد بنفس الأهمية التي كانت عليها قديما، فيما أصبحت احتجاجات المستهلكين؛ من الطبقات المتوسطة، والفقيرة، هي الأكثر والأوسع انتشارا.
أصبح بمقدور الإنترنت أن يكون القوى المحركة، في ما يتعلق بالاحتجاجات الجماهيرية، وإدارة الحراك، والثورات عن بعد. لقد نجح الفضاء الالكتروني فيما أخفق فيه الواقع السياسي؛ باستغلال أحدث تقنيات العصر، وتحويلها إلى ماكينة ضخمة لجمع الجماهير وحشد الأنصار، والتعريف بالمواقف، والرد على الخصوم، وإحياء الأمل لدى الشباب في القيام بدور فاعل في الحياة السياسية العالمية.