- الله كريم!
أبرز لازمة كلامية كانت تتردد على لسان الشاعر والمترجم الكبير الذي رحل عن عالمنا في 5 من كانون الثاني/ يناير الجاري عن قرابة 65 عاما؛ وكانت الكلمتان على شفتي عيد إبراهيم تعنيان أن الحوار في هذه التفصيلة والجزئية انتهى على الأقل الآن، وأن الأمر الذي يناقشه محدثه معه يحتاج تدخلا إلهيا حكيما لكي يستطيع مواصلة الحديث فيه معه، لكن في وقت آخر.
وكأنما كُتِبَ على جيل من المبدعين والمثقفين والراغبين في خدمة
الثقافة العربية والأمة؛ وكأنما كُتِبَ عليهم التيّه في قلب المدن والنفوس ومفارقة الأحباب من الجيل الأكبر، الذين يتلمسون الطريق من خلال نبرات كلماتهم، وعميق نظرة المحبة في عيونهم.
في الغربة تعرف عيد إبراهيم؛ وفي غربة أخرى تودعه إذ يعود إلى وطنه
مصر ويحذرك من العودة، رغم محبته الشديدة لأن يعود كل طائر غريب إلى أفراخه وصغاره في العش، وهو يعرف جيدا أن الوطن لديك هو بعضك المنصهر والمقطوع عنك، وأنك تركت نفسك لا صغارك فيه. كم من مرة قال:
- حذار من العودة كل شيء تغير في هذا البلد؛ ابق كما أنت.. عُضّ على جذوة الصبر، وتعمد ألّا تُفنيها أو تُذيبها.. فها هنا هلاكك!
وكانت أن أودتْ بنا جذوة الصبر إلى مفارقة عيد إبراهيم طوال مدة بقائنا في هذه الحياة الشحيحة البخيلة على الأحباب بنخلة عجوز يلتقون أسفلها؛ ولو كانت بلا ثمار.
يعرفه أحبابه جيدا:
يتوزع وقته بين أمرين ثالثهما مظلوم ومهضوم تماما معه:
جلسته الطويلة لترجمة نص أدبي عن الإنجليزية؛ إلى جواره عدة قواميس معاصرة وكوب ماء، وهدوء شديد يلف المكان. كان يمدح زوجته السورية السيدة نجاح سفر قائلا:
- هي مترجمة مثلي.. ولكنها رائعة في تهيئة أجواء الإبداع لي؛ متى بدأت
الكتابة تفصل العالم عني، لا تحدثني أو تدع أحدا من الأبناء يفعل، ويمشي الجميع هنا على أطراف أصابع أقدامهم!
ثم يطلق تلك الضحكة المجلجة التي كم سنفتقدها من بعده.
ومع ذلك لم تكن الحكمة تغيب عن فمه وأحاديثه؛ يقول لك بانبهار ولكأنه يقرأ قصة خرافية من ألف ليلة وليلة عن صبي صغير (كأنه عيد إبراهيم)، إذ يُتوفى أبوه ويتركه وأبناء أكبر منه.. ينهرك بلطف:
- لستُ ذائبا في البعد عن خالقي، بل إنني عانيتُ من بعد المقربين عنه في معاملة صبي صغير.. علمه الألم الإبداع؛ ولكم يستوجب الإبداع مرارت لا تطاق.. بل إنني مُقصر.. أعوض تقصيري كل ليلة.. ولو تأخرت بعض الليالي بما لا يعرفه هذا العالم من صلة به وحده!
يروي بانفعال:
كان الصبي نائبا للتعامل مع إخوته الكبار، وكان عالمه حلوا نديّا بعد وفاة أبيه عامل النسيج في أحد المصانع التي افتتحها الثورة على يد جمال عبد الناصر، وحول آلامه بعد وفاة والده إلى التفكير في الترجمة ومعايشة القواميس الكبيرة؛ وقد سهل الله له اقتناءها!
أما الأمر الآخر الذي يقضي عيد إبراهيم وقته فيه فهو معايشة الأصدقاء، يأخذ الملول المُتألم المُتضايق إلى حديقة ليقول له إن واقع هذا العالم ليس بهذا السوء إلا لليائس منه؛ وإن لدينا آمالا ما تزال في الثورة (أيام كانت مُورقة لم تزل)، أو يجذب آخر إلى منزله، سواء في أبو ظبي ومن بعد في الرحاب في القاهرة؛ تجد على طعامه ألوانا من طيف البشر قد لا تلتقي إلا لديه، ويعالج الأمر دائما بابتسامة حانية.
يقول لمَنْ أعد له طعاما يراه فاخرا:
- "طيب".. أنت تحبني؛ فلماذا أتعبتَ زوجتك من أجلي وهي (حتى) لا تعرفني!
منتهى التألق في التعبير عن البساطة والمحبة وتواضع الداخل منه.
مرض ثمانية عشر يوما في القاهرة؛ فلم يسعفه اتحاد كُتّاب، وهو عضو مقل في الظهور فيه لكنه أبدع ما يزيد عن 80 كتابا ما بين ترجمة وشعر خاص به، ولم يؤنس مرضه القائمون على الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة وقد عمل فيها سنوات طويلة قبل أن يعمل في وزارة الثقافة الإماراتية؛ ولم يقصر في دفع تأميناته حتى بلوغه المعاش، بل لم يهتم أحد بجمع أعماله الكاملة حتى الآن، ورحل مغبونا مظلوما من القائمين على الثقافة قبل السياسة في مصر.
أنفقت أسرته في المستشفى اليوناني الخاص في العباسية من حُر مال الراحل الكثير.. وكان يُطيبُ خاطره لو نظرت الدولة إليه بعين الاحترام قبل الرحيل، ولو لم تنفق مالا!
علَّم عيد إبراهيم المحيطين به من الأحباب والأقران والسائرين على درب الحياة والإبداع أن الكتابة في صدور الرجال بسطور المحبة لا تختلف عن الكتابة في الأوراق والراويات وداووين الشعر؛ بل لعلها تكملها.
علمهم أن الإنسان ينبغي أن يتفانى في خدمة آرائه ومعتقداته، لكن يقبل في نفس الوقت وبلطف كبير جم الاختلاف معه في الرأي.. مرددا:
- الله كريم!
يطمع ويطمح محبو عيد إبراهيم في كرم الله معه؛ فقد كان له محبا له تعالى، وهم يعلمون ويعرفون جيدا أن عيدا لم يمت.. بل ذهب لعالم أفضل، وتركهم (هم) للموت والتيّه في ظلام النفوس وهذا العالم المليء بالظلمة.. لكن غير المستعصي على الإصلاح برأي الراحل!