سقطت حكومة رئيس الوزراء المكلف السيد الحبيب الجملي ولم تنل ثقة مجلس نواب الشعب بعد انتظار طويل ومخاض أطول، انتظر فيه أهل تونس أن تسفر المحادثات بين مختلف المكونات السياسية التونسية عن حكومة إنقاذ قادرة على إخراج البلاد من أزمتها. هذا الفشل ضاعف من أزمة تشكيل الحكومة التي وضعت البلاد في حالة من الاحتباس السياسي وحولها إلى قضية رأي عام تشغل المواطنين والسياسيين والتونسيين أجمعين.
لكنّ الحقيقة تبدو أوسع وأعمق من مجرد أزمة حكم ومعضلة تشكيل جسم سياسي تنفيذي هو الأعلى في سلّم الدولة بعد انتخابات حرة ونزيهة. الواقع هو أن أزمة تشكيل الحكومة تخفي وراءها العناوين الحقيقية لأزمات أعمق هي التي تمنع تشكيل الحكومة والذهاب بالمسار الانتقالي إلى منتهاه. ما هي الأسباب العميقة لأزمة تشكيل الحكومة في تونس؟ وما هي أبرز الخلفيات التي تفسر هذه التعثر الظاهر؟
صراع الشرعيات
لا أختلف مع كثيرين في تونس وخارجها من الذين يرون في المشهد التونسي بكل أزماته مشهدا عظيما في محيط عربي مشتعل أو متكلس. هم يرون في الصراع التونسي علامة صحية ودليلا على نجاح التجربة الديمقراطية التونسية التي صارت تسمح للبرلمان برفض الحكومة أو بتزكيتها وهو فعلا أعظم إنجازات الثورة.
الشرعية الانتخابية هي أسمى وأعلى شرعيات البناء الديمقراطي اليوم في تونس كما هو الحال في كل الديمقراطيات الراسخة. فالانتخابات التونسية التي نُظمت في آجال متعاقبة وضعت حجر الأساس لدولة مدنية تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية وتتبنى آخر ما وصل إليه الاجتماع البشري من أساليب التنظيم والتنظم داخل الدولة الحديثة.
تتوهم أحزاب الدولة العميقة وعلى رأسها الحزب الدستوري الحر وحزب قلب تونس وحزب تحيا تونس أنها بإقصاء الإسلاميين من المشهد السياسي ستتربع على الكرسي مكانهم، وهي لا تعلم أنّ الإسلاميين هم الضامن الوحيد لبقائهم في المشهد. ت
لكن الشرعية الانتخابية ما كان لها أن تكون لولا شرعية الثورة باعتبارها المرحلة التي جعلت من الشرعية الانتخابية أمرا ممكنا وهو الأمر الذي يجعل من الشرعية الثورية سقفا أعلى وعتبة تسبق المنطق الانتخابي. يجدر التذكير هنا إلى أن شرعية ثالثة تضاف إلى ما سبق وقد تأسس عليها المسار الانتقالي التونسي ممثلة في الشرعية التوافقية التي سمحت بتحالف فرقاء الأمس وضمّ رموز النظام القديم إلى البناء السياسي الجديد في خطوة تهدف إلى تفادي قانون العزل السياسي والتمكين للمصالحة الوطنية.
الثورة ثم الانتخابات فالتوافق هي أهم المراحل التي صبغت المسار السياسي التونسي عقب ثورة الحرية التي انطلقت من مدينة سيدي بوزيد الفقيرة ووصلت إلى أقصى مشرق المنطقة العربية ومغربها. هذا الأمر لم ينجح إلى حدّ الساعة في ردم الهوّة الفاصلة بين الدولة الناشئة وبين دولة العمق التي تحاول فرض شرعية جديدة هي شرعية الانقلاب والفوضى من أجل ضرب المشهد الانتقالي وإسقاط ثورة تونس في أتون النماذج التي سقطت فيها بقية الثورات العربية الأخرى.
إنقاذ الإنقاذ
صحيح أن سقوط حكومة الجملي ليس إلا بداية مرحلة جديدة في صراع الشرعيات، وليس إلا إعلانا عن بدء المعركة الحقيقية بين الشرعية الثورية والشرعية الانقلابية في حال سقوط الشرعية التوافقية ووجود رئيس في حجم الرئيس الحالي الذي يعبر تعبيرا أقصى عن الخط الثوري.
إن انفصام الرابط الذي يجمع القوى المتوافقة وهما أساسا حركة النهضة المحسوبة على الاسلاميين وحزب قلب تونس الوريث الشرعي لمنظومة الفساد والاستبداد سيعيد الحركة إلى المربع الأول ويفتح المواجهة كاملة مكشوفة بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة. في هذه الحالة وفي هذه الحالة فقط سيكون من الممكن انكشاف الظهير الانقلابي أمام الأطياف الثورية التي قد تُلغي صفقة التوافق وتفعّل آليات المحاسبة على سنوات الجمر التي عاشتها تونس طيلة ما يقارب نصف قرن من وهم الاستقلال والدولة الوطنية.
تتوهم أحزاب الدولة العميقة وعلى رأسها الحزب الدستوري الحر وحزب قلب تونس وحزب تحيا تونس أنها بإقصاء الإسلاميين من المشهد السياسي ستتربع على الكرسي مكانهم، وهي لا تعلم أنّ الإسلاميين هم الضامن الوحيد لبقائهم في المشهد. تتهم الأطياف الثورية وقطاع عريض من الشعب التونسي حركة النهضة بأنها اعتمدت
سياسة الأيادي المرتعشة وأنها باعت رصيدها الانتخابي ورهنت تاريخها المشرف وضحت بقواعدها في سبيل إنجاح صفقة التوافق مع النظام القديم. وهو نفس النظام الذي يعض اليوم اليد التي انتشلته من أمواج الجماهير الغاضبة التي كانت مستعدة يوما للقصاص من جلاد الشعب.
صراع السياقات
سياق الثورة التونسية اليوم يختلف كثيرا عن باقي السياقات العربية وينفرد بنجاح تجربته الديمقراطية إلى حد كتابة هذه الأسطر ونجاته من براثن المنوالات الانقلابية التي تديرها غرف الثورة المضادة في الإقليم. لكن تطور المشهد ف في الجارة ليبيا على الحدود الجنوبية الشرقية بتواجد قوى أجنبية متعددة الجنسيات هناك يوشك أن يلقي بظلاله السوداء على المسار التونسي.
إن الزيارات المتعاقبة لوزير الخارجية الفرنسي والإيطالي والسعودي وقبلهم الرئيس التركي أردوغان تجعل من تونس محطة أساسية من محطات الصراع الدائر في ليبيا تأثيرا وتأثرا. هذا التداخل بين السياقين المحلي والإقليمي لن يكون دون تأثير على مسار الثورة التونسية ومحطاتها السياسية القادمة بشكل سيقوي أو يضعف شوكة الدولة العميقة المرتبطة بالمشروع الانقلابي الجاري في ليبيا بتمويل إماراتي صريح.
سقوط حكومة الجملي ليس إلا بداية مرحلة جديدة في صراع الشرعيات، وليس إلا إعلانا عن بدء المعركة الحقيقية بين الشرعية الثورية والشرعية الانقلابية في حال سقوط الشرعية التوافقية
الأمر الأهم في المشهد التونسي اليوم هو الانكشاف العظيم للأحزاب المحسوبة زورا على التيار الثوري وهي أساسا الأحزاب القومية واليسارية والديمقراطية مثل حركة الشعب والتيار الديمقراطي والجبهة الشعبية التي أثبتت بكل وضوح اندراجها في المشروع الانقلابي وإن بشكل ناعم. قبلت هذه الأحزاب مجتمعة تكوين جبهة موحدة مع حزب قلب تونس الذي أقر بعلاقته مع الكيان الصهيوني خلال الفضيحة التي سبقت الانتخابات الرئاسية وهو الحزب الذي يمثل الدولة العميقة بكل أذرعها الفاسدة و يجمعه معهم عداؤهم الشديد للإسلاميين على حدّ زعمهم.
إن كل هذه التطورات والتقاطعات في المسار الانتقالي التونسي تمثل رافعة مهمة للوعي الجمعي في مهد الربيع العربي وهو الأمر الذي يحوّل كل الأزمات على الأرض إلى مكاسب للوعي وتجارب أساسية للمخيال الجمعي. لقد بدأ شعب تونس في التخلص من أثقال الايديولوجيا وشعاراتها وأكاذيبها وأساطيرها ليؤسس لوعي سياسي قادر على تكوين قاطرة جديد لوعي سياسي عربي ناهض لن يكون ما بعده مثل ما قبله.