في عضون العشرة الأيام الأخيرة حدثت تطورات عسكرية مهمة إلى الشرق من العاصمة صنعاء، جاءت في محصلتها في صورة نصر أحزره الحوثيون على جبهة واسعة مهملة كانت تحيط بالعاصمة وكادت
قوات الجيش المرابطة فيها أن تستعيد العاصمة منذ ثلاثة أعوام.
قبل أيام من هذه المعركة تداول الإعلام الصادر في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية أنباءً تحدثت عن خطة سعودية لاستعادة العاصمة صنعاء، في وقت كان الحوثيون ينخرطون في محادثات سرية مع مسؤولين سعوديين للوصول إلى صفقة يتم بموجبها إعادة ترويض جماعة الحوثي وفصلها عن الارتباط الحركي والأيديولوجي والسياسي مع طهران، بتشجيع من الحكومة البريطانية.
ليس بوسع المراقب أن ينفي أو يقر بمصداقية أنباء كهذه، فالثابت أن
السعودية لا ترغب في استعادة صنعاء بالطريقة التي ينتظرها معظم
اليمنيين، أي عبر هزيمة عسكرية للحوثيين تنهي
تأثيرهم العسكري والسياسي في البلاد.
ربما أراد الحوثيون إظهار حجم النتائج التي سيحققونها من وراء هجوم عسكري جرى التحضير له على مدى أشهر مضت ليبدو انتصاراً مدوياً، عانت في مقابله القوات الحكومية المرابطة منذ أكثر ثلاث سنوات في
جبهة نهم من الإهمال والإساءة والتحقير والاستهداف.
التحرك العسكري أنهى أكثر من أربعة أشهر من التهدئة التي أعلنها الحوثيون منتصف شهر أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، إثر هجوم كبير بالصواريخ والطائرات المسيرة على منشآت أرامكو العملاقة في كل من "بقيق" و"خريص"، وتبين أن إيران أو مجموعة تابعة لها هي من نفذ الهجوم من جهة الشمال.
حرص الحوثيون على أن يأتي تقدمهم العسكري في جبهة نهم متزامناً مع هجمات بالصواريخ والطائرات على منشآت وصفت بالحساسة في المناطق التي تقع في ما وراء الحدود المشتركة لليمن مع المملكة العربية السعودية، بينها منشآت تابعة لشركة أرامكو في جيزان.
ما يمكن وصفها بالجولات الناعمة من المفاوضات بين
الحوثيين والرياض، لم تؤت أكلها كما يرغب الحوثيون على ما يبدو، إلى جانب أنها يمكن أن تشكل إحدى وسائل التعبير عن الغضب الإيراني إزاء التصعيد الأمريكي ضد طهران.
لذا، قرر الحوثيون الذي يستفيدون من الدعم اللوجستي الإيراني، العودة إلى هذا النوع من التفاوض الخشن لتأكيد أحقيتهم في الاستحواذ على المكاسب الجيوسياسية التي حققوها بواسطة جولات سابقة من الحرب تحت غطاء من أطراف عديدة، تشمل فيما تشمل السعودية والإمارات.
من الناحية الاستراتيجية، قد يبدو أن الجيش الوطني خسر جبهة حاكمة ومؤثرة في سياق المواجهة مع الانقلابيين الحوثيين، لكن هذه الجبهة تحولت على مدى السنوات الماضية إلى استثمار مكلف بالنسبة للجيش الوطني.
لقد تحولت جبهة نهم بالفعل إلى ثقب اسود ابتلع أكثر من 1200 جنديا وضابطا، راحوا ضحية المواجهات المتقطعة وأعمال القنص، والتقاعس الذي تبديه قيادتهم ومن خلفها التحالف، ويؤدي إلى حرمانهم من التمسك بالمواقع التي يسيطرون عليها بسبب نفاد الذخيرة وقلة الإمدادات.
فقد منع التحالف السعودي الإماراتي قوات الجيش الوطني بقوة من التقدم نحو صنعاء، ولتنفيذ إرادته تلك كان يقوم بقصف الجيش ويقتل العشرات من أفراده وجنوده، الأمر الذي خلف إحباطاً شديداً واستنزافاً حاداً للمعنويات في صفوف هذا الجيش، ومع ذلك كان مقاتلوه حاضرون لمواجهة أعنف هجوم حوثي على جبهة نهم قبل أن يضطروا للانسحاب، في ظل ملابسات عديدة انطوت على قدر كبير من الغدر والوقيعة بهؤلاء المقاتلين.
هناك مؤشرات على أن خيار المواجهة العسكرية سيستمر مع الحوثيين خلال الفترة المقبلة، في ظل القصف الذي ينفذه الطيران على مواقع للحوثيين في العاصمة وعدد من المحافظات، وهذا لا يحدث في الغالب إلا في صورة رد على هجمات نفذها حوثيون في الداخل السعودي.
لكن الثابت أن السعودية لم تصل بعد إلى قناعة بأن إنهاء المعركة ووضع حد للتهديد الذي يطال عمقها الجغرافي ومنشآتها الحيوية، لن يكون إلا من خلال إعادة تعيين أطراف المواجهة بمسؤولية عالية، تعكس مستوى التزام الرياض المفترض تجاه الدولة اليمنية والأطراف الوطنية التي تتحمل عبء المواجهة مع الانقلابيين في صنعاء وفي عدن.
حتى اللحظة لا تتوفر مؤشرات على أن السعودية ماضية في هذا الاتجاه، فإعلامها لا يزال يستهدف الكتلة الصلبة في منظومة الشرعية التي تعاني من التفكك والإنهاك والاستهداف من حلفائها، وسط مداولات قيل إنها تجري لتمكين النصف المهزوم في حلف الانقلاب الأول، وهم جماعة صالح، سياسيا وعسكريا، وهذا مخطط يحتاج إلى مدة طويلة ولا يتحمل تبعاته المرهقة اليمنيون، ولا تتحملها مكانة المملكة التي تعاني من التدهور جراء الضغوط العسكرية الهائلة التي تمارسها إيران عليها عبر حلفائها الحوثيين في اليمن ومليشياتها في العراق.