أساطير الأولين كثيرة، ولها تأويلات، ويقول عنها فاضل الربيعي: إن الأسطورة مثل طائرة صارت في السماء، وليس التاريخ مليئاً بالأساطير، بل إن الأساطير مليئة بالتاريخ، ويجب نفض الغبار عنها.
ويمكن أن نذكر أمثلة على امتلائها بالتاريخ، مثال ذلك: عثور منقّب آثار ألماني يدعى هنريك شيليمان كان يبحث في آثار طروادة في العام 1871 في تل في الأناضول العثمانية، على قطع من النحاس تعود إلى الرومان، وفي موقع آخر من الحفر عثر على أبنية مطمورة ظنّها تعود إلى طرواده الثانية التي حكمها الملك بريام، ومن تأويلات حيوان السناتور، وهو كائن نصفه حصان ونصفه بشر، أن الفارس الإغريقي لم يكن يترجل عن جواده، فجعلته تلك الاستعارة كائناً أسطورياً.
وأظن أن فاضل الربيعي هو من أفضل من حلل الأساطير العربية والإغريقية، وبحث فيها، وردَّ بعض الأساطير الإغريقية إلى أصولها العربية، وتحدّثَ عن هجرتها، لكن أساطير الآخِرِين العربية سفيهة وتافهة. وقد صدّق العرب طويلاً قصة ادّعاء جيهمان العتيبي للمهدوية، حتى إني سمعت القرضاوي يتحدث عنها في ذكرياته في برنامج مراجعات على فضائية الحوار، وودتُ لو أنه قال هكذا سمعت، أو زعموا ذلك، حتى جاء تامر المسحال بعد أربعين سنة وأعاد التذكير بتلك الواقعة التي ذكر كتاب "المملكة من الداخل" لروبرت ليسي؛ بعضا منها.
ما أكثر الأساطير العربية المعاصرة، مثل حادثة المنشية في القاهرة، وتفجير الأزبكية في دمشق، وقصة الأسلحة الكيماوية تحت منصة رابعة، بل إن زميلاً لي قد اعتقل، وسمعت من زملاء آخرين أنه كان ينوي تفجير الشركة التي يعمل فيها، وكل جريمته أنه كان يقرأ كتباً ممنوعة. أساطير النظم العربية الحاكمة كثيرة، لكن تافهة وخالية من الحكاية ومتعة الأسطورة.
كشف برنامج "
ما خفي أعظم" بتاريخ 2 شباط/ فبراير 2020 عن التفاصيل الدقيقة للعملية الدامية لفك حصار الحرم المكي بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1979، بشفاعة وثائق تثبت أن فرنسا أسهمت في تحرير الحرم المكي، على خلاف الرواية
السعودية الرسمية التي تقول إن الجيش السعودي البطل، هو الذي تولى العملية.
المقابلات مع قائد الفريق الفرنسي بول باريل، وأحدِ القناصة الفرنسيين كريستيان لامبرت، تكشف جهد معدّ البرنامج، وكان يمكن لبرنامجه في عصر الطغاة التقليدي أن يُحدث ثورة، أو أن يُحدث قطيعة بين قطر والسعودية، والقطيعة واقعة، لكنها لن تكون في واقعنا الحالي سوى معلومات ثقافية، فالأخبار العاجلة تترى، ونصف الشاشة الفضائية حمراء، ونحن غثاء كغثاء السيل، نتابع الواقع كأنه تاريخ. ما لم يخف عظيم ونراه ولا نحير قولا أو فعلا.
لكن هناك ملاحظات أخرى ألحّ عليها معدّ البرنامج، وهو محق في إلحاحه على صاحب الشهادة الكبرى باريل حول الاستعانة بالأجانب، وهي تسمية ناعمة لغير المسلمين، فخادم الحرمين استعان بالفرنسين في اقتحام الحرم، وهو محرّم على غير المسلمين، وأقرَّ صاحب الشهادة وقائد الاقتحام أنهم دخلوه، بل وقتلوا مسلمين، بل إنه اعترف بأن أعداد الضحايا كبيرة، وليست مثل ما ادَّعى النظام السعودي، وقدّر عددهم بخمسة آلاف وربما أكثر. وتعليل ذلك بأنَّ النظام أراد إعدام الشهود الحجاج الذين سينتشرون في الأرض ويروون للصحافة ما شاهدوا، أو تقليل عددهم.
ومن عيوب البرنامج أنه اعتمد على شهادتين من المعتدين الأجانب، ولم يُشفع برنامجه بشهادتين لحجاج مسلمين، فلم نعلم هل ادعى محمد القحطاني أنه المهدي حقاً، أم أنه ادّعاء وتلفيق سعودي، لكسب تعاطف المسلمين الذين ينفرون من ادّعاء النبوات. وادّعاء النبوة منكر لدى المسلمين وليس من سبيل سوى بادعاء المهدوية، لكن ادّعاء الألوهية المقنّعة يجري على قدم وساق في أكثر من دولة عربية.
ومعلوم لدى الجميع حرمة دم المسلم. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: "ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وأن نظن به إلا خيرا".
وسبب الاستعانة بفرنسا دون أمريكا أنَّ وزير الداخلية كان قد تعرّف على بول باريل، وأعجب بمهارته في القنص، لكنه كان يُعلم أمريكا ويطمئنها أولاً بأول على نظام الحكم، وليس على سلامة الحجاج. وعلم الملك بالواقعة بعد هرب الإمام ووصوله إلى القصر بنصف ساعة، حيث كان ينام قرير العين هانيها، من العدل والأمن والأمان في المملكة السعيدة.
وإن طيارين "أجانب" حلقوا فوق الكعبة، ولا بد أنَّ الحجر الأسود قد ازداد سواداً. وقد اقترحت السعودية خطة الإغراق بالماء، والصعق بالكهرباء، والكهرباء نار، ثم اقتحموها بالغاز. وهناك مفارقة هي أن وزير الداخلية تعجّب من إرسال فرنسا ثلاثة أشخاص فقط، وكان يتوقع إرسال جيش، فواحدهم بألف، كما كان المسلمون قديماً. وقد فتحوا مكة مرة ثانية، فانظر كيف دار الزمان دورته. وجاء في الآثار، لما حاصر عمرو بن العاص رضي الله عنه بلاد مصر، طلب المدد من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل له أربعة من الرجال وهم: الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد، رضي الله عنهم جميعا، وقال له : يا عمرو مددتك بأربعة رجال كل رجل منهم بألف رجل. وثمة ملاحظات هي:
- سخرية بول باريل من جهل السعوديين بالقتال، وعجزهم عن ارتداء واقيات الغاز، سوى نسب "بطولة" الفرنسيين لهم. وقد أظهر الفرنسيون حكمة ليست في السعوديين بسكوتهم وبقبولهم بالمال، والنفوذ، فكأنهم على قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هؤلاء قوم رضوا بالاسم ورضوا عن المعنى.
- شفقة الأجانب بالحرم والحجاج عند طلب باريل من حكومته الفرنسية ألفي قنبلة غاز، تزن سبعة أطنان، ويتميز هذا الغاز بقدرته على إصابة المستهدف بالعمى، ويحطم شجاعته ويجعله خوارا، لكن السلطات الفرنسية (في البداية) رفضت طلبه، وأرسلت له وثيقة تصف فيها طلبه بالجنون، وتطلب منه إتلاف الوثيقة فور قراءتها. ويقول باريل: إن السعوديين كانوا يريدون الحصول على عشرة أضعاف هذه الكمية! وذُكر في شهادة أخرى أنه حتى ذلك الوقت لم تكن هناك من خريطة للحرم!
- يبدي صاحب الشهادة وبطل الاقتحام أسفه لمقتل الأبرياء من الحجاج، ويسخر سخرية مبطنة من العدالة السعودية التي أعدمت المحاصرين ميدانياً من غير محاكمة، فلم يكن الغاز وحده هو الذي يسبب العمى، الإعلام السعودي أيضاً يسبب العمى. يمكن أن نتذكر الخاشقجي، الذي لم يحاصر الكعبة، ولم يدّع المهدوية، ولا زالت تطلق الحكومة السعودية الغاز المسبب للعمى، وتنكر حقيقة ما جرى.