هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: متطوع مكة
المؤلف: جلال عويطة
منشورات: مركز يقين الرباط- المغرب
الطبعة الأولى 2020
عدد الصفحات: 316
ليس من عادة الناشطين في المجال الإغاثي ـ لاسيما في العالم العربي ـ أن ينشغلوا بتأليف الكتب، فكثافة الأعمال التي يفرضها هذا العمل وثقلها وازدحامها لا يترك لهم مجالا للكتابة، لاسيما في المجال الذي تفرغوا للعمل فيه. لكن، بالنسبة إلى الأستاذ جلال عويطة، الذي رأس مؤسسة عطاء الخيرية الذائعة الصيت لسنوات، فإن الأمر يختلف، فقد فضل أن يخوض هذه التجربة، وأن يخصص فترة طويلة من التأمل في المصادر الشرعية وفي سيرة الرسول صلى الله وعليه وسلم والصحابة والسلف الصالح، ليس من أجل تأصيل العمل الطوعي، ولا من أجل الحث عليه، أو التوجيه التربوي للإقناع بأهمية التطوع وفائدته الإحسانية، وإنما لهدف أكبر، يتمثل في تلمس روح التطوع في هذه المرجعية، والنفس الذي تشعه النصوص الشرعية والمواقف الإنسانية العظيمة المبثوثة في التراث الإسلامي الواسع.
هي تجربة مثيرة، كونها لم تكتب بقلم عالم ولا مفكر ولا مثقف يتقن فن التأصيل أو التحليق الفكري أو الترف الثقافي بين يدي هذه القضية الإنسانية الرفيعة، إنما هي تجربة مشتغل بالعمل الطوعي، ذائق لحلاوته وصعوباته، ومهتم بهمومه وانشغالاته وآلامه وآماله، مشتغل عاش كل تجارب العمل الطوعي والإغاثي بمختلف مشمولاته الإنسانية، منقب عما يقوم به من عمل من داخل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح، يلتمس جدوره وأصوله، ومعانيه ودلالاته، وفوق هذا وذاك، يحاول التماس الروح التي تسكن هذه المواقف، والتي تجد شرعيتها في نصوص القرآن ومقاصده العليا.
كتاب "متطوع مكة" الذي صدر مؤخرا عن مركز يقين، بفضل سعيه إلى لم كل مشمولات العمل التطوعي، وبحثه عنها داخل التراث الإسلامي الواسع، لاسيما في مرجعيته الأساسية، الكتاب والسنة وسيرة الرسول عليه السلام وسيرة السلف الصالح، يمكن أن يرشح ليكون دليل المتطوع وزاده العملي في رحلة إنسانية رحبة.
فضل جلال عويطة أن يسمي كتابه "متطوع مكة" تذكيرا بالوجهة والقبلة من جهة، وتأكيدا على أن مرجعيته الأساسية في استلهام فلسفة التطوع النظرية والعملية هي القرآن والسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم،
اليتم والترمل شرخان عاطفيان غائران يحتاجان لدعم ومواساة دائمة من جميع فئات المجتمع
من جميل الإشارات التي التفت إليها جلال اعويطة في كتابه تأمله لمهمة الأنبياء، وكونهم نذروا أنفسهم للدعوة من غير استحقاق لأجر دنيوي،
التطوع الذي أسست له المرجعية الإسلامية لم يكن مؤطرا بخلفية طائفية أو دينية تحصر ثمراته في المسلمين
كما أشار اعويطة ضمن فلسفة التطوع ودليله العلمي إلى بعض الأوجه الغائبة في ذهن المسلم في العمل الإحساني الإغاثي، وهي ما يتعلق بالتطوع من أجل الممتلكات العامة، إذ حاول الحفر في السيرة لالتماس نماذج من الوصايا النبوية للحث على التطوع وصناعة المتطوعين الذين أعدهم النبي صلى الله عليه وسلم لخدمة المصلحة العامة وتأمين ممتلكات الدولة التي تعود بالنفع على الجميع، وتناول في كتابه بعض الاستراتيجيات التي انتهجها النبي صلى الله عليسه وسلم للتمكين للفقراء، كما أشار ضمن فلسفة التطوع ودليله إلى الأهمية التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم للاجئين، وكيف حول عليه السلام المسجد إلى قبلة لهم، يتلقى أعطيات الناس من أجل توزيعها عليهم لسد حاجاتهم، كما أشار إلى الفلسفة المحمدية في العمل الإغاثي، وكيف توجه إلى خلق تنمية مستدامة، مستندا في ذلك إلى سلوك عائشة رضي الله عنها وكيف كانت تؤهل الفقير للعيش الكريم، وتخرجه من بؤس الفقر وكابوسه إلى كرامة العمل المدر للدخل وإلى الرجل الفاعل في مجتمعه.
ومن الإشارات الدالة التي ركز عليها الكاتب علاقة التطوع باستقرار البيوت وتماسك الأسر، وعلاقته أيضا بتعمق العلاقات الإنسانية بين مكونات المجتمع، كما سلط الضوء على علاقة التطوع بالبيئة ودورها في جمال الطبيعة وإحاطتها بالمساحات الخضراء التي تؤمن لها شروط الحياة، وكيف لعب التطوع في تكثيف عملية التشجير في صدر الإسلام، ولم يغفل الكاتب إلى العلاقة المتينة التي تربط التطوع بذوي الاحتياجات الخاصة في الإسلام، وكيف يبذل التطوع كل الجهد من أجل إشاعة الرحمة بذوي الاحتياجات الخاصة، ورفع الصعاب عنهم وتذليل العقبات في وجههم وتسهيل اندماجهم في المجتمع، وفي التنمية، ومن جميل ما أشار إليه المؤلف في بحثه في التراث الإسلامي التفاته إلى دور التطوع والعمل الإغاثي في القضاء على الجريمة وعلى جذورها في المجتمع، وأيضا دوره في محاربة البغاء ومناهضته ومعالجة أسبابه العميقة. كما لم يفته أيضا الإشارة إلى وضع العبيد في الجاهلية وفجر الإسلام وكيف ساهم التطوع في تحقيق الحرية والدفاع عنها وصيانتها.
وأشار الكاتب أيضا إلى دور التطوع في إعطاء رسالة إنسانية للطب، وإحاطتها بكل ابعاد الضمير الإنساني.
على أن التطوع الذي أسست له المرجعية الإسلامية لم يكن مؤطرا بخلفية طائفية أو دينية تحصر ثمراته في المسلمين، بل أكد الكاتب بهذا الخصوص على أن فلسفة التطوع ودليله في الإسلام يشمل الإنسان، كل الإنسان بما في ذلك الكفار. بل يشمل كل المخلوقات بما في ذلك الحيوانات والطيور، ويضرب لذلك مثلا بالوقف الإسلامي الذي يعتبره الكاتب سيد التطوع في الإسلام بدون منازع، وكيف وصلت مخرجاته إلى النساء واليتامي والأطفال والرضع وذوي الاحتياجات الخاصة والمطلقات والأرامل والطيور والحيوانات وغيرها، وكيف أبدع المتطوعون في مسار الإسلام الطويل اشكالا من الوقف التطوعي التي تظهر تشعب الفعل الإغاثي في الإسلام وشموله وسعته.
المعاني الخفية في التطوع
مع كل الجهد الذي بذله اعويطة في إخراج فلسفة التطوع ورسم معالم دليل عملي للمتطوع في العمل الإغاثي، فإنه ركز في المقابل على الجانب الخفي والباطني في التطوع، أو الشيء الذي يكون ثاويا خلف فلسفة التطوع، وهو الارتباط بالله والنية الخالصة لوجهه، و التماس القبول منه، تلك النية التي تجعل الإسلام يحيط التطوع بجملة من الضوابط التي تصون كرامة المتطوع له، وفي الوقت ذاته، تختبر نية المتطوع ومقاصده الخفية، فركز الأستاذ اعويطة على قضية القبول، ومدار الفعل التطوعي عليه، وأن أعظم قاعدة في فلسفة التطوع ودليله أن القبول هو اختصاص إلهي حصري، والا أحد يضمنه، وأن التطوع إنما ربط بالنية، وبالقبول، حتى يبقى مستمرا ومتجددا لا ينقطع.