شكلت إدلب القلعة الأخيرة التي تؤوي ملايين السوريين أملا في النجاة، لكن يبدو أن كل الاتفاقيات والتعهدات بالحفاظ على الأمن هناك لم توفر الغرض من تحويلها إلى ملاذ آمن للسوريين غير الراغبين في ترك بلادهم أو المضطرين للبقاء.
التقارير التي كشفت عنها صحيفة الديلي تلغراف البريطانية بشأن تسجيلات لجنود النظام السوري وهم يستهدفون المدنيين في منطقة حلب وإدلب لإجبارهم على الرحيل؛ تشير إلى أن الحرب لا تهدف حقيقة إلى سيطرة النظام واستعادته للأرض وتخليصها من الإرهابيين فقط، كما تدعي الرواية الرسمية، بل إن هناك هدفا لا يقل أهمية بالنسبة للنظام وداعميه، وهو التطهير العرقي القائم على أساس طائفي، وهو يشبه إلى حد ما جرى في روندا أو البوسنة والهرسك من إبادة جماعية لإجبار السكان على الرحيل بهدف إحداث تغيير في التركيبة السكانية في البلاد.
بعد أن اضطر حوالي تسعة ملايين سوري من العرب السنة للجوء خارج بلادهم موزعين في بقاع الأرض، وفي حال استمر الهجوم على إدلب التي تؤوي حوالي خمسة ملايين آخرين، فإن هذا يعني أن عدد سكان
سوريا ربما لن يتجاوز 10 ملايين مواطن.
ما الهدف من ذلك؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بالنظر إلى المواقف الدولية تجاه المسألة، والحيرة تأخذك وأنت ترصد المواقف الإقليمية والدولية، سواء للمشاركين في المعركة أو المتأثرين بنتائجها.
فتهجير حوالي أربعة أو خمسة ملايين سوري من إدلب يعني أن تركيا لن تتحمل هذا العدد وستفتح لهم الأبواب إلى الخارج خاصة أوروبا، وأوروبا تصرخ من أزمة المهاجرين. أوروبا هذه كلها في حلف الناتو، وإذا كان هذا الأمر يقلقها جيوسياسيا ويسبب لها الأزمات، فلماذا لم تحرك ساكنا لوقف الهجوم على إدلب؟
أمريكا أعلنت بصراحة أنها تدعم تركيا لكنها لن ترسل الباتريوت لحماية المنطقة، لذلك تركيا تدرك تماما أن الغرب لا يقف إلى جانبها. وهذه ليست الأزمة الأولى، فالكل يذكر الموقف الغربي بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية نهاية 2015.
أما النظام وحلفائه الروس والمليشيات
الطائفية الداعمة يدركون تماما انكشاف ظهر تركيا، وهي تقف وحيدة في الميدان، فالغرب المتضرر الأول من الهجوم والذي يمكنه أن يضع حدا لهذا الهجوم، لا يحرك ساكنا، كذلك الأنظمة العربية شامته بما وصل إليه الموقف التركي، في الوقت الذي تسيطر الغطرسة والمغرور على بوتين المسكون بحروب "القيصر"، كما يحب أن يرى نفسه، على "السلطان" كما يحب أن يرى أروغان. وبوتين يرى أن الفرصة سانحة لأن يضعف دور تركيا لكي يتفرد في الساحة السورية، أو أن يوظف اللحظة ليضع العلاقات التركية الغربية على المفصل ويجبر الرئيس التركي على أن يخرج من هامش المناورة بين روسيا والغرب.
والسؤال: ماذا يمثل الهجوم على إدلب، الجيب الآخير؟
الواضح أن من يدرس المعطيات الديموغرافية بعد عشر سنوات من الحرب في سوريا يدرك حجم التغير الديموغرافي الهائل في هذا البلد، والذي سيؤثر على بنيته لعقود قادمة.
أي أن سقوط الجيب الأخير للسكان المدنيين وهروبهم منه يعني تراجع عدد السكان إلى أقل من تسعة ملايين نسمة موزعين بين طوائف وأعراق. فإذا كانت الغالبية الساحقة من اللاجئين من العرب السنة الذين كانوا يمثلون 70 في المئة من السكان، وبمقاربة رياضية إذا كان عدد سكان سوريا 23 مليون نسمة وتم
تهجير نصفهم وهم من المكون الأكبر، فهذا يعني أننا سنشهد سوريا بأقلية عربية سنية أو توازي نسبة الطائفة العلوية في البلد.
وهذا يعني أن سوريا سيكون عدد سكانها أربعة أو خمسة ملايين نسمة، وهذا يعني بالتالي ضعفا أمام إسرائيل نظرا لتراجع القوة الشاملة لسوريا بسبب تراجع ركن أساسي في القوة الشاملة للدولة.
وعليه، إذا استمرت موازين القوى الحالية كما هي عليه لصالح الهيمنة الروسية في ظل انشغال إيران وانكشاف الموقف التركي، ستكون روسيا هي المتحكم في شكل النظام السياسي القادم في حال أي تسوية لا يمكن أن تكون توافقية، بل ستأتي فرضا من طرف الجهة المهيمنة أي روسيا. وأظنها ستتجاوز مسألة اللاجئين، ولا سيما أنه من ينظر إلى الصراعات الدولية التي نتج عنها لاجئين في دول أخرى كان من الصعب عودتهم أو احتاجوا وقتا طويلا للعودة.
وهناك خشية من أن هناك عقبات ستفرض أمام الراغبين بالعودة. انظر إلى الحالة الهندية وهي دولة ديمقراطية كيف يحرم المسلمون من حق المواطنة، فما الذي سيمنع نظاما طائفيا من حرمان اللاجئين من العرب السنة من حقهم بالعودة إن هم رغبوا بالعودة إلى وطنهم، خاصة لو نظرت إلى تصرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، التي قال فيها بكل صراحة "رفض بلاده أن يحكم السنة سوريا"؟ وهذا يتقاطع مع رغبات حلفاء النظام الطائفيين.
من يضمن إذا نجح النظام بخطته تجاه إدلب، أن لا تترك روسيا الحبل لتقوم بمهمة تطهير سوريا من والوجود الإيراني وحلفائه من حزب الله، وبالتالي حتى يسهل على روسيا فرض نظام تابع لها مشلولة الإرادة السياسية، وهذا يعني خروج هذا البد من معادلة الصراع مع إسرائيل وإلى الأبد، لذلك كان على حلفاء النظام الذين يساعدونه بحرب التطهير العرقي أن لا ينسوا العلاقة الحميمية بين بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي أكد أن مسألة بقاء النظام لا أو عدمه لا تعنيه، وتوافقاتهما غير المحدودة على الساحة السورية!
السؤال الأخطر إذا ما استبعدنا أن تكون إيران طرفا في هذ التطهير الطائفي، فما الذي ستكسبه إيران وحزب الله والمليشيات الموالية لها في دعمهم لهذه الحرب وبهذه الطريقة إذا لم يكونوا قادرين على ضبط نتائج اللعبة لصالحهم، في ظل الأوضاع التي تواجهها إيران في خوض حرب ستشكل الواقع الجديد في سوريا؛ لا يخدم إلا روسيا وإسرائيل؟ وسيدرك حزب الله أنه أول الخاسرين ومن بعده إيران، بعد أن تفقد سوريا كل مركبات القوة والاستقلال الوطني.