كتاب عربي 21

وصل المقطوع

شريف أيمن
1300x600
1300x600
ورد في تعريفات الشريف الجرجاني، أن القطع عند الحكماء "هو فصل الجسم بنفاذ جسم آخر فيه". ويُستفاد من كلام العلّامة الجرجاني، أن كل قطع يرد على المخلوقات إنما يجري بانفصالٍ ناشئٍ عن نفاذ الغَيْرِيَّة فيه، سواء كان النفاذ ماديا في القطع المادي، أو معنويا في القطع المعنوي، والأخير هو مراد الحديث هنا.

أحسب أن الوصل لا يتم إلا بالمحبة، والقطع لا ينفذ إلا بكُرْه المنصَرَف عنه، أو الجهل به. وقد أورد ابن القيم رحمه الله في مدح المحبة أنْفَس ما قيل فيها، فافتتح روضة المحبين بقوله: "فبالمحبة وللمحبة وُجدت الأرض والسماوات، وعليها فُطرت المخلوقات، ولها تحركت الأفلاك الدائرات، وبها وصلت الحركات إلى غاياتها، واتصلت بداياتها بنهاياتها، وبها ظفرت النفوس بمطالبها، وحصلت على نيل مآربها". فالمحبة أصل الوصل، والجهل أو الكره أصل القطع.

أصعب ما يصيب المؤمن، انقطاعه عن منشئ الخلق الذي استأثر بعموم الرحمة، والتودد للمعرضين عنه بإمدادات عطاياه، ولفت أعناق المعرضين إليه بلطف المحب؛ فاستمرار الإمداد مع الإقامة على المعصية محبة، والإمهال في الحياة مع الإعراض عن منشئ الخلق محبة، والبلايا التي تجذب رقاب الآبقين محبة، والعطايا التي تربط على قلوب المترددين محبة. فكل نَفَسٍ واصل إلى العبد يصل إليه بالمحبة لا غير، وكل لحظة في الحياة كان يمكن للروح أن تخرج قبلها إشارة محبة الخالق للمخلوق، فَجَلَّ من يُمهل العاصي رغم مبارزته لخالقه، وَجَلَّ من يُبدل الإمهال بالإفناء رغم قيّوميته على عباده.

ورد في الحديث القدسي عن رب العزة قوله: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة". هذا الحديث ختم به الإمام النووي أربعينه المجموعة، وكان قد بدأ كتابه بحديث "الأعمال بالنيات" وختمه بهذا الحديث، وكأن رسالته أنه يهدف إلى تعريف الخلق بالخالق، ووصل المنقطع بصاحب النعمة، ولا أجدى من الإخبار عن رب العزة مثل الإخبار عنه بكلامه القدسي، فربنا يتحدث بذاته عن ذاته، ومن أراد معرفة الطريق فليسلك درب كلام ربنا عن ذاته، وكلام نبيه (سيد المحبين) عنه، وَلْيَتَنَبَّه أن ربنا يقول "يا ابن آدم" ولم يقصر نداءه على المؤمنين به، فرحمته تَسَعُ كل مخلوق.

والقطع لم ينفذ إلى القلوب إلا بعوائق صنعها المرء بنفسه، أو بتحريف وجه الشريعة الحسن ممن لم يفهمها، وعوائق النفس لا تكاد تُحصى، أبرزها الإحجام عن الطاعة بسبب الإغراق في المعصية، وتسويف الطاعة إلى ما بعد التوبة، وغَفَلَ المُسَوِّفُ أن القلب كالزرع ينبت بالسُّقيا، وطول السقيا الفاسدة يفسد القلب بما يجعل علاجه غاية ربما لا تُدرك. أما التحريف فقد بان أثره مُذْ انخرط الدعاة في منافسات المواقع السياسية وتركوا الوعظ والتربية والتزكية، فشاركوا في الصد عن سُبُل السلام ولو بغير قصد، وقطعوا بفعالهم بعض الخلق عن خالقهم.

زادت حالات التعبير العنيف وغير المهذب عن الذات العليّة، وبدا أن قَطْعا يتكوّن ويُراد له أن يكون كالأخدود الذي يفصل بين جانبين بمسافة كبيرة لا يمكن رتقها، وبهوّة سحيقة لايُرى قرارها، وبحدّة بالغة على حافّتيْها تصيب المتمسك بها بجراح عميقة. يجري ذلك ولا نكاد نرى من يصل المقطوع ويهدي الحائر، بل يزداد الانفصام بتعزيز خطابات التميز والغَيْريّة.

الآفة الكبرى أن أطباء القلوب أصابهم التبلّد، فكمنوا وقت البروز، وخملوا وقت النشاط. صحيح أن الاستبداد يدفع الكل إلى الانزواء، ويرفض أي خطاب غير مسيطر عليه حتى لو كان بعيدا عن شؤون الحكم المباشرة، لكن حملة الشريعة الذين تربوا على قول الله "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا" لا ينبغي لهم أن يخشوا سيف المعز، والله حسيبهم.

اقتضت سنة الصناعة أن المصنوع يفتقر دوما إلى رعاية صانعه، وتحتاج معداته إلى صيانة دائمة، وكذا الخلق يفتقرون إلى رعاية خالقهم وصانعهم، وحياة الحيرة والتشتت لا يمكن لها أن تنتهي بغير الركون إلى ركن شديد. ولا أشد وأعظم من جناب الله، ولا أرحم وأرأف من صنيع الله في خلقه، فهو واصل المنقطعين بغير حاجة إليهم، وهو يثيب المحسنين ولا ينفعه إحسانهم، وهو ممهل العاصين ولا تضره معصيتهم، سَمَتْ ذاته عن كل نقيصة، وعَلَتْ أفعاله عن كل سوء، يتودد رغم الإعراض، ويُقْبِل حال الصدود، ويغفر دون استغفار، ويمحو بالتفضّل دون جَبْر، أرشد إليه بأيسر السبل مع أن آياته دالة عليه، وأرسل الرسل تفضلا والكل مفتقر إليه، أُرشِدْنا بأنه (جلّ في علاه) يفرح بتوبة التائبين، وعودة العاصين، وسماع أصوات المحبين المناجين.. من وقف على بابه وَلَجَ إذ لا حاجب بينه وبين خلقه، ومن شارف على نعيمه أدخله وإن لم يستأهل الدخول، رحمن رحيم لا نظير له، ينادي على المؤمنين كما ينادي على الكافرين، وتصل عطاياه إلى كل الخلق دون تفرقة، فالوصل ممدود، والعطاء غير مجذوذ.

إن مدعي البحث عن الحقيقة ومراجعة أفكاره، يحتاج إلى جعل الدين أحد مصادر بحثه، لكننا نجد كثيرين ممن أخذوا موقف المراجعة، نظروا في جهة واحدة من الأفكار، دون النظر إلى أوثق الأفكار وأحكمها، ودون الإقبال على كلام الله عن ذاته وكلام سيد العارفين به عنه، وفي هذا السبيل خَصْرٌ ما بعده خصر في طريق الهداية والسكون، وفي طريق وصل المقطوع.
التعليقات (0)