دخلت البشرية معركة مفصلية،
سيتقرر في ضوء حسمها مستقبل مجتمعات تُصارع التصدي لانتشار فيروس كورونا، والجمع
بين تطويع العلم من جهة، وتطويع الخرافات والشائعات وانتشار حالة الهلع والخوف
والتستر على الوباء من جهة ثانية، من أجل استخدامات أخرى يجري العمل بها في أنظمة
عربية لا تزال فيها نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والتعليمية والثقافية
والنقابية تحددها الفئة الحاكمة، وقد جرى تفريغ تدريجي لقيمة حياة الإنسان من
مضمونها على مدار عقود طويلة، فاستفحلت فيها ظواهر "الأنا" المتورمة على
الذات، كما استفحلت التناقضات الاجتماعية في ظل غياب القدرة على معالجتها إلا في
استخدام القمع والبطش، كحل وحيد تجده أنظمة قمعية حلا مؤسسا لأي تحد داخلي أو
خارجي تواجهه.
شكلت بعض هذه التناقضات تعابير مختلفة عن
تفاقم هذه التناقضات. وما تشهده بعض المجتمعات العربية في تحدي انتشار الوباء، من
حالة التنمر على الذات وعلى الآخر، إلى العجز المفضوح عن حل أزمات مرتبطة بالوباء،
واستناد البعض لفكرة "المؤامرة" كحل يرضي غرور السلطة الحاكمة بعض
الأحيان، والركون لحالة الإنكار لكل الأزمات.. يُعرض تلك المجتمعات لانتكاسات
واسعة تضاف لانهيارات عربية أخرى، تتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والصحية،
وانكفاء دورها السياسي محليا وإقليما ودوليا إلى الدرجة الصفرية والوظيفية، إضافة
لتهميش واسع للمشاركة الديمقراطية التي كانت العدو الأول لأنظمة الاستبداد العربي
التي نالت من مجتمعات ترزح تحت نير الظلم والفقر والتهميش مع أنظمة استثمارها
الأعظمي في بناء السلطة والأمن.
كان من "الطبيعي" أن تُلقي الأنظمة
الاستبدادية ثقلها الأمني لصالح تمكين نفسها من الاستمرار في دورة الحياة، وهو
الاتجاه الذي يضع شروط الانصياع لمصالح بعيدة عن الإنسان بضرب وتهميش الاتجاه ذي
النزعة الاستقلالية النسبية والديمقراطية والحرية.
ولا شك في أن الأزمة العالمية مع انتشار وباء
فيروس كورونا، تشكل حركة الجدل فيها مواصلة الاستثمار في إنكار وجوده أو وصوله إلى
هذه الدولة أو تلك، أو التقليل من شأنه، أو نسبهِ "للمؤامرة"، وصولا
لامتعاض البعض من تصريحات تضفي شرعية الخشية على هذه المجتمعات، وتعمق الحاجة
لمرحلة جديدة من العلاقات بين الدول والمجتمعات التي تسارع لتكريس مؤسساتها
العلمية والبحثية والاقتصادية للانخراط في عملية البحث عن مخارج توقف الكارثة التي
تطال البشرية.
التعاطي مع تحدي الوباء، يتطلب مجابهة موضوعية
مستندة للعلم والتنمية البشرية، تنسجم مع برامج حقيقة بعيدة عن شعارات وهلوسات
زعيم السلطة واستثماراته الخاسرة، وتعالج مشكلات مجتمعات محددة تاريخيا بسماتها
وخصوصياتها وتناقضاتها المحددة، وليس كشكل مجرد ومعزول عن أوضاع ومشكلات بقية
العالم.
هناك، إذا حاجة لتضامن عربي وإنساني يرتقي في
شكله ومضمونه عن الصيغة السابقة، التي أثبتت فشلها في إدارة حصار الأشقاء، وإقامة
غرف التآمر التي انهارت كليا مع مآس منتشرة من المحيط إلى الخليج، من اليمن إلى
العراق وأبو ظبي والرياض إلى سوريا وليبيا ومصر، والتي أتاحت التعبيرات السياسية
والاقتصادية والاجتماعية لهذه الأنظمة إلى إشاعة تفكيك بناها، والفشل الذريع
بتأسيس بنية ومنظومة صحية وتنموية اقتصادية وديمقراطية قبل أي كارثة.
إن التردد في إجراء مراجعة انتقادية شاملة،
يهدد بمزيد من التردي في دور النظام الرسمي العربي، وبمزيد من العزلة، غير تلك
العزلة المفروضة لضمان حياة مجتمعات أخرى ينتظر منها حساب النظام العربي نتيجة
أبحاثه لتقديم وصفة العلاج من وباء لن يشفي كامل الجسد العربي المثخن بأمراض،
والحافل بتسجيل إنجازات وهمية، بالتأكيد على مواقف تأتي الأحداث دوما لتؤكد على
عدم صحتها، ودون مغادرة خندق معركة الذات ودائرة الأنا المثقلة بالخطايا إلى دائرة
الانخراط بالعلم والتنمية، والاستثمار بالإنسان وحريته وكرامته، وابتداع أشكال
أخرى لاستمرار الحياة لا قهرها وظلمها.
ستفتك كثير من الأمراض في بنياننا المغطى بأناشيد
ولطميات "عظمى" أو صغرى، والتخندق في جبهة الإجهاز والتضييق على حياة
البشر لا حمايتها.