هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: الإتحاد الأوروبي في القرن الواحد والعشرين.. أوروبا والبحث عن دور
الكاتب: عاطف أبو سيف
الناشر: الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، عمان، 2019،
(355 من القطع الكبير)
شهد العالم منذ عام 1990 استقطابا جغرافيّا يتفاعل عبر إنشاء تجمعات إقليمية تتعدى حدود الدول. غير أن أهم وأنجح هذه التجمعات هي التي التفّت حول الأقطاب المركزية للاقتصاد العالمي وما يعرف بالثالوث (اليابان وجنوب شرق آسيا والولايات المتحدة الأمريكية).
ويتصدّر هذه البناءات الإقليمية الاتحاد الأوروبي وهو أقدمها، وترجع فكرة انطلاقه إلى معاهدة روما عام 1957 التي أَنْشَأَتْ المجموعة الاقتصادية الأوروبية (CEE) التي كانت تضمّ بلدانا مندرجة من منظمات أخرى تمَّ تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية مثل المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي (OECE) والمجموعة الأوروبية للفحم والصلب (CECA)، أُسِسَتْ كل هذه المنظمات لإعادة بناء أوروبا بعد أَنْ دَمَّرَتْهَا الحرب،وكذلك بهدف إزالة الصراعات بين ألمانيا وفرنسا،ولمواجهة بلدان أوروبا الشرقية تحت مظلة الحلف الأطلسي.
وربما لم يكن المشروع الوحدوي الأوروبي ليرى النور لولا هذه الحروب التي شهدتها القارة الأوروبية خلال القرن العشرين، ومع ذلك، فطريق الوحدة الأوروبية لم تكن مفروشة بالورود، إذ تعرضت خلال 15 سنة الماضية لأزمات كبيرة، لكن تظل الأزمة الراهنة المتمثلة في الجائحة العالمية "كورونا" التي اجتاحت كل أصقاع الأرض، هي الأخطر على وحدة الاتحاد الأوروبي، من حيث تداعياتها على العديد من دول العالم، ومن بينها الدول الأوروبية .
وفي الوقت الراهن، تشهد أوروبا ظروفا صادمة أجبرتها على غلق جميع حدودها، وذلك دليل على "الأنانية الوطنية. فهل ستكون جائحة كورونا "اللعبة الأخيرة" التي ستدمر التكامل الأوروبي الذي لم يعد قادرا على الاستمرار؟ القادة الأوروبيون لم يتوقعوا احتمال وقوع وباء من هذا النوع عندما أجبروا سلطات إيطاليا وإسبانيا واليونان على خفض تكاليف الرعاية الصحية بشكل كبير من أجل التغلب على أزمة سنة 2013.
في هذا الكتاب الجديد الذي يحمل العنوان التالي "الاتحاد الأوروبي في القرن الواحد والعشرين أوروبا والبحث عن دور"، والصادر عن الأهلية للنشر والتوزيع في المملكة الأردنية الهامشية بعمان في عام 2019، يحاول الدكتور عاطف أبوسيف عبر الفصول الستة التي يتكون منها هذا الكتاب، فكفكة المفاصل الأساسية المتعلقة بالدور الأوروبي، وتحليل تجربة التكامل الأوروبي في منظورها التاريخي والمؤسساتي، من زوايا متعددة، في محاولة لتسليط الضوء على فرص وآفاق أوروبا في العالم.
ولادة مشروع الاتحاد الأوروبي
شهدت القارة الأوروبية في النصف الأول من القرن العشرين حربين عالميتين مدمرتين، كانتا من نتائج الأفعال الصاخبة والمأساوية للرأسمالية الاحتكارية العالمية التي تحولت إلى مرحلة الامبريالية، والصراع التنافسي على اقتسام مناطق النفوذ بين الامبرياليات الغربية المتصارعة.
فالرأسمالية كنظام إنتاج، وفي سيرورة تطورها التاريخي منذ بضعة قرون، تعيش أزمات دورية اقتصادية واجتماعية وصراعات دامية ودمار شامل لشعوب وثقافات بأكملها، واستخدام للسلاح النووي كما حصل في عام 1945 ضد اليابان (القنابل النويية التي ألقيت على مدينتي هيروشيما وناكازاغي) هِيرُوشِيمَا وناكازاغي)، وما انفكت إلى غاية سقوط جدار برلين عام 1989، تواصل عملها في نشر وتوحيد مكوناتها على جميع القارات، وكل الأنشطة الإنسانيةِ، في نطاق ما بات يعرف بالعولمة الليبرالية.
لقد ذهب قرابة عشرة ملايين نسمة ضحايا للحرب العالمية الأولى، وأكثر من عشرين مليون جريح من عدد القتلى فقدت روسيا مليونين، وألمانيا أقل من ذلك بقليل، وفرنسا 1.3 ملونًا، وإيطاليا 600 ألف نسمة. وقُدرت الخسائر المادية بنحو 350 ملياردولار، أما الخسائر البشرية في الحرب العالمية الثانية فقد قدّرت بقرابة نصف إجمالي الخسائر البشرية، حيث فقد نحو 60 مليون نسمة، من بينهم 20 مليون جندي ماتوا في المعارك، و40 مليون مدني قتلوا جراء القصف والدماروالأمراض والأوبئة والجوع والمجازر الجماعية.
وكان للاتحاد السوفييتي نصيب الأسد في عدد الضحايا إذ قدم قرابة نصف إجمالي الخسائر البشرية، حيث فقد قرابة 27 مليون قتيل. ومع الدمار الكبير الذي أصاب المدن والمصانع والبنى التحتية، تراجع اقتصاد الدول الأوروبية المختلفة، وانخفضت قيمة عملتها، واضطرت للاستدانة والاقتراض لإطلاق مشاريع إعادة الإعمار. بالمقابل ضاعفت الولايات المتحدة التي تخوض حربًا على أرض الغير من إنتاجها الصناعي و الحربي وطورته، ومع ارتفاع مبيعاتها فقد تجمع لديها قرابة 80 في المئة من قيمة الرصيد العالمي من الذهب مماجعل الدولار عملة التبادل الأولى في العالم.
وهكذا كانت الأسباب الحقيقية التي قادت إلى الحربين العالميتين، تكمن في طبيعة تشكل الدولة ـ الأمة بالمعنى البورجوازي منذ القرن التاسع عشر في القارة الأوروبية، وما نجم عنها من مغالاة في الشعور الوطني والتطرف القومي في كل مرحلة تعيش الرأسمالية أزمة كبيرة، وفي تنامي النزعة الاستعمارية لدى الدول الراسمالية الأوروبية الكبرى وسعيها المحموم نحو اقتسام مناطق النفوذ في العالم من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية، لا سيما النفط، والحديد الصلب، والفحم والكربون، إضافة إلى اشتداد الصراع التنافسي بين مختلف الاحتكارات الرأسمالية. فاستخلص الآباء المؤسسون للوحدة الأوروبية الدروس التاريخية من النتائج الكارثية للحربين العالميتين، وعملوا على تجنّب إعادة إنتاج أسباب الصراع التي قادت إلى الحروب.
أسس المشروع الوحدوي الأوروبي
يقول الباحث عاطف أبو سيف: "لذا فقد ارتكز المشروع الوحدوي الأوروبي على ثلاثة أهداف أساسية ستشكل عصب الفكر التكاملي الأوروبي وتميّزه على مدار العقود اللاحقة، وتمثلت في:
أولاً ـ القضاء على التنافس الاقتصادي والصناعي عبر تربيط الاقتصاديات الأوروبية مع بعضها البعض لنفي واستئصال أي توتر وتنافس قد ينشأ.
ثانيا ـ القضاء على النعرات الوطنية عبر بناء مؤسسات فوق وطنية تعمل على رسم سياسات تعاونية مشتركة تعكس السعي المشترك بدلاً من التنافس الفردي.
ثالثا ـ بناء أهداف مشتركة ومواقف متقاربة، ووقف سباق التسلح الداخلي، والتركيز على بناء هوية مشتركة بين الدول الأوروبية.وربما ساعد في ذلك تطوير صورة الاتحاد السوفييتي والخطر الشيوعي بوصفه العدو الأول للنمو والرخاء الاقتصادي في ذلك الوقت (ص 29 من الكتاب).
لقد اختار شومان الطريق لتحقيق المشروع الوحدوي الأوروبي عبر البوابة الاقتصادية، لا عن طريق بناء كيان سياسي وحدوي، وإن كانت فكرة الوحدة الأوروبية السياسية الكاملة لم تغب عن مهندس المشروع الأوروبي أمثال شومان ومونيه.
بعد أن خرجت أوروبا منهكة ومدمّرة بعد الحرب العالمية الثانية، سعى الزعماء الأوروبيون من شارلمان إلى تشرشل إلى توحيدها، لكي تتجاوز تتداعيات الحرب العالمية الثانية، وتعيد بناء قوتها الاقتصادية في ضوء الحقائق التي برزت على المسرح الدولي في عالم ما بعد الحرب العالمية وهي، أن أوروبا خسرت العديد من مستعمراتها في إفريقيا وآسيا من جراء الانتصاراتِ التي حققتها الحركات الوطنية التحررية التي كانت تنادي باستقلال البلدان الخاضعة للاستعمار القديم بشكله العسكري المباشر، ثم جاء انقسام العالم إلى معسكرين في نطاق ما بات يُعرف بالنظام الجولي ثنائي القطبية، المتكون من الاتحاد السوفييتي الذي كان يتزعم منظومة البلدان التي تبنت "الاشتراكية الحقيقية"Le socialism reel التي أجبرت الرأسمالية على "أنسنة" أفعالها طوال القرن العشرين، مما سمح بتواجد أشكال مثل الكينزيانية Le keynesianisme أو دولة الرفاهة LETAT providence أوالفوردية، والولايات المتحدة الأمريكية زعيمة المعسكرالرأسمالي الغربي التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية.
ويُعَدُّ رجل الأعمال الفرنسي جان مونيه(Jean Monnet) والمستشار لوزير الخارجية الفرنسي، آنذاك، المهندس الحقيقي والأول لتحقيق الوحدة الأوروبية، ولكن وفق التنازل الطوعي والتدريجي عن السيادة الوطنية للدولة لصالح أجسام فوق الدولة(المفوضية)، حيث تكون المواقف المشتركة أكثر فعالية ومقدرة على حماية المصالح من التصرف الفردي. وكان مونيه يعتقدُ أنَّه لن يتحقق السلام في أوروبا إذا ما تمسكتْ الدول الأوروبية بسيادتها الوطنية، وذهب للقول في السياق عينه، أنَّ الدول الأوروبية أصغرمن أنْ تكون قادرة على ضمان رخاء وتطور شعوبها الاقتصادي والاجتماعي، وعليه فهي مدعوة للبحث في تكوين فيدرالية تجمعها. وعليه يجب احتواء سلطة الدولة بتطوير بنية سياسية جديدة.
لقد تلقف رجل الدولة الفرنسي بعيد النظر الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية روبير شومان(Robert Schuman) أفكار جون مونيه بلهفة شديدة، وعمل على تكريسها على أرض الواقع.
كانت أطروحة جون مونيه تتمثل في لجم القدرات العسكرية لألمانيا، التي يمكن أن تستغل طاقة إنتاجها الكبير من الحديد والصلب في مجال التصنيع الحربي، وهذا يقتضي كبح جماح المارد الألماني عبر إنشاء شركة عابرة لصلاحيات الدولة الوطنية، من خلال تربيط وتشبيك الطاقة الألمانية بالطاقة الفرنسية، وبالطاقة الأوروبية بشكل عام، وهذا ما تبناه شومان.
يقول الباحث عاطف أبوسيف: "لقد كانت فرنسا المحرك الأساس للوحدة الأوروبية والراغبة في إنجازها. ويمكن النظر لحقيقة هزيمة فرنسا على يد ألمانيا في الحرب وخوفها من تكرارذات السيناريو كمدافع أساس وراء هذه الرغبة، بجانب ربما رغبة ديغول في أن يرى أوروبا موحدة وقوة جديدة لا تخضع لهيمنة القوة الأميركية الصاعدة .ثمة دولتان كبيرتان لا يمكن تحقيق الوحدة الأوروبية الحقيقية بدونهما: ألمانيا وبريطانيا" (ص 41 من الكتاب).
وَفيما كانت فرنسا ترى أن وجود بريطانيا مهم وحيوي لنجاح المشروع الوحدوي الأوروبي، نظرا لثقلها العسكري على مستوى القارة الأوروبية، ودورها في الحرب العالمية الثَّانِيَةِ، كَانَ الشُّعُور السَّائِدُ فِي برِيطَانِيَا هُوَ عَدَمَ الرَّغْبَةِ فِي الْاِنْخِرَاطِ فِي مَشروعٍ وحدوي أُوروبِيّ، يتجاوز صلاحيات الدَّوْلَةِ الْوَطَنِيَّةِ. فالبريطَانيّونَ يُفَضِّلُونَ التَّنْسِيقَ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الدُّوَلِ الْأورُوبِّيَّةِ، مَعَ اِحْتِفَاظِ كُلَّ دَوْلَةٍ بِصَلَاَحِيَّاتِهَا وسيادتها الْمُطلقة على كَافّة قطاعات ومناحي التَّعاوُنِ.
لقد اختار شومان الطريق لتحقيق المشروع الوحدوي الأوروبي عبر البوابة الاقتصادية، لا عن طريق بناء كيان سياسي وحدوي، وإن كانت فكرة الوحدة الأوروبية السياسية الكاملة لم تغب عن مهندس المشروع الأوروبي أمثال شومان ومونيه. فقد طرح شومان خطته كمقترح فرنسي بعد موافقة المستشار الألماني إدنوارعليها، في (آيار/مايو 1950)، بوصفها اللبنة الحقيقية الأولى في تكوين شركة الفحم والصلب،تمثل هذا بتشكيل شركة الفحم والحديد والصلب في 18 نيسان / أبريل 1951 التي وقعتها إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبلجيكيا وهولندا ولوكسمبورغ. ونصت الاتفاقية على إنشاء الهيئة الأوروبية للكربون والصلب، وعلى حرِّية انتقالها بين الدول الوقعة، الأمرالذي عني إلغاء الحواجزالجمركية بينها بهذا الشأن، مع إلغاء فكرة الحصص.