تبدو الصورة للكثير من المتضررين أو المعنين بالشأن
المصري فيما يخص قطبي المجتمع الأبرزين، من
الإخوان والعسكر، وكأنها مُعتمة بالغة الإغلاق؛ بخاصة بعد المحاولة التي بذلها محسوبون على الجماعة في 5 من نيسان/ أبريل الجاري عبر ندوة "التعاون والمشاركة فريضة" في إسطنبول، تحدث فيها بعض المُنتمين إليها عن إمكانية مشاركة المسجونين في السجون من المختصين في التغلب على فيروس كورونا؛ ضمن سياق الدعوة لإطلاق سراح المسجونين على ذمة قضايا الرأي، بالإضافة لبيان تال في نفس الشهر أكدت فيه الجماعة على أن الجائحة فرصة لتوحد الجهود لبذل الخير ونفى الظلم، فيما جاء رد عبد الفتاح
السيسي في تصريحات بعد يومين، خلال جولة تفقد فيها عناصر وإمكانيات القوات المسلحة لمساعدة المستشفيات والجهود المدنية للتغلب على الفيروس، وفيها أكد السيسي على رفضه لهذه الدعوات من جانب مَنْ أسماهم "فصيل الشر".
غير أنه لاحقا ومن بداية الشهر الجاري أطلقت الجماعة في المنفى حملة أطلقت عليها اسم "شعب واحد.. نقدر"، ويبدو من عنوانها أن الجماعة تخاطب من خلالها المصريين بعدما فشلت في مخاطبة النظام رسميا؛ غير أن الحملة يوم الاثنين الماضي (20 نيسان/ أبريل الجاري) توجهتْ بالخطاب الرسمي للسيدين رئيس اتحاد الغرف التجارية الحكومية، ورئيس مجلس إدارة اتحاد الصناعات، الذي تشرف عليه وزارة التجارة والصناعة (الحكومي أيضا)، وذلك بشأن "بعض الإجراءات والتوصيات التي رأت الجماعة أنه من الواجب اتخاذها لتجاوز جائحة كورونا".
والحقيقة فإن الجماعة لم تسأل نفسها سؤالا بديهيا بالغ الأهمية وهي تدشن الحملة وتصدر البيان: بأي حيثية تخاطب المجتمع المصري وتتوقع استجابته في ضوء الواقع الحالي، وتتوجه إلى جهات حكومية به؛ فعلى أي أساس وتحت أي مُسمى؟
(1)
من البديهيات التي نتمنى أن تقرها الجماعة لننطلق لمساحة أرحب من الفهم ومحاولة الحل على أسس صحيحة أن أمر "لمّ الشمل" للحالة المجتمعية المصرية المتأزمة يوجب الابتعاد عن إطارين رئيسيين.. أولهما: إطلاق بالونات اختبار الرؤية السياسية لدى الجانب الآخر، وإمكانية قبوله بما تراه الجماعة وتسميه صلحا؛ وهو نفس المعنى أو التطبيق العملي للمصطلح الذي دأبت الجماعة على رفضه منذ 3 تموز/ يوليو حتى 2016م، بحسب تصريحات للسيد نائب المرشد، منها
ببرنامج على شاشة الجزيرة، والشواهد متعددة عموما.
ومن هذا، فإن قيادات الجماعة تحتاج أيضا للبعد عن الزج بمُتحدثين لها يحار المرء في ما يريدونه؛ أو باسم مَنْ يطلقون تصريحاتهم، كما بمؤتمر إسطنبول الأخير الذي أسفر عن إعلان أربعة مُتحدثين لا يعدون من قيادات الجماعة؛ وإنما هم مجرد أعضاء في الكيان المعروف بالجبهة التاريخية أو القديمة، وهم يخاطبون رأس النظام المصري من أجل لمّ للشمل وإطلاق السجناء؛ فإن استجاب النظام خرجت القيادات نفسها مرحبة، وإن رفض النظام كما فعل رئيسه خرج نائب المرشد قائلا إن الجماعة لا تفكر في الصلح مع النظام من الأساس؛ مثلما فعل الرجل بعد أيام قليلة من تصريحات السيسي في
حوار بموقع "عربي21".
والحقيقة أن الوضع أشد خطورة من نظام إطلاق بالونات الاختبار، ثم الشدة في التصريحات على إثر ذلك؛ ثم للأسف التراجع عبر إطلاق "حملة" كبالونة اختبار جديدة من الجماعة للنظام.. أعتقد أن الأخير لن يوليها اهتماما من الأساس في ظل هذه الملابسات؛ فضلا عن أنها لن تحدث أي أثر على أرض الواقع.
(2)
الحقيقة المُرّة التي لم تكن الجماعة تتخيلها في أسوأ كوابيسها هي أن النظام الحالي المصري (الذي كفت الجماعة نفسها عن إطلاق اسم الانقلابي أو دموي أو سفاح أو صاحب المجازر أو ما شابه في مؤتمرها الأخير)، هذا النظام تمكن على أرض الواقع بالفعل ولأجل غير محدد الآن فضلا عن أن يكون معروفا. وباختصار فإن الجماعة اليوم هي التي تواجه موقفا عمليا بالغ الصعوبة، وبالتالي فإن عليها التوقف عن التمترس والتكبر خلف خطاب النصر المزعوم وآليته الفاشلة، والبحث عن خطاب عملي أكثر مرونة واتفاقا مع الواقع.
(3)
تبدو قيادات الجماعة كمن يفيق حينا ويعاود السبات أحيانا؛ وإلا فإن معتقليهم لدى النظام المصري دفعوا بعضهم لمحاولة التفكير والتصرف من أسابيع. ومنذ سنوات قال أبرزهم بأن الجماعة إصلاحية لا سياسية؛ وإن على الأنظمة عدم الخوف منها؛ وهلم جرا. ومؤخرا قال نفس الرجل إن الجماعة لن تترشح لرئاسة مصر ثانية.
ما رأي تلك القيادات في جمع شمل مثل هذه الخطابات والأدبيات في موقف واضح محدد يستفيد من الفرص الحالية المُتاحة للجماعة (على قلتها ومحدوديتها)، ويبلور رؤية واضحة للخروج من أزمة مئات الآلاف من المصريين الحالية داخل وخارج الأوطان؟ على أن يبدأ هذا الحل خطوة نحو إنهاء الواقع المأساوي المصري الحالي المترتب على سوء إدارة الجماعة للمشهد منذ 3 تموز/ يوليو 2013م على الأقل.
(4)
هل تظن قيادات الجماعة أن أزمتها الرئيسية في ما يقال إنه 60 ألف معتقل أو أكثر أو أقل؛ في ظل جائحة كورونا؟
إن الجماعة لو فكرت بهذه الطريقة فستكون ماضية على طريق التضحية بكل غال ونفيس من أجل بقاء التنظيم اسما على غير مسمى. إن الأزمة الحقيقية في ضياع المعتقلين مع المأزومين داخل مصر وخارجها في صراع تخسر الجماعة فيه ويكسب أعداؤها، فيما تدفع الأمة كلها الثمن.
أعتقد أن فهم الجماعة بقياداتها الحالية للأزمة نفسها عليه معول كبير في عدم حلها، وبالتالي تفجر الأرض من أسفل أقدام نفس القيادات بالمشكلات التي تظنها مرضا وتناقشها على أنها كذلك، فيما هي مجرد عرض لا أكثر!
(5)
في 3 حزيران/ يونيو 2016م وفي استقبال رمضان المعظم الموافق لذلك العام، أطلق كاتب هذه الكلمات مقالا متسائلا فيه عن إمكانية أن يفعلها الإخوان ويعلنوا إنهاء الصراع في مصر ليرحموا أنفسهم والعالم. وعلى الجانب الآخر كانت الجماعة تعلن أن
المصالحة لا تعنيها.
والحقيقة ضبط المصطلحات هنا مهم جدا (كما كان في تمثل الأزمة يجب أن يكون في البحث عن حل)، فالأمر لا يخص مصالحة ولا جمع الشمل، أو ما يمكن أن تتفهمه الجماعة ثم تطلق عليه اسما شريطة أن يكون فهما متصلا بالواقع لا الأوهام. فلا الجماعة تنتمي للمعارضة للنظام من الأساس (فالمعارضة جزء من النظام غير أنه يسعى للوصول للحكم)؛ ولا هي تفعل شيئا في مواجهته على أرض الواقع، ومثل هذه النوعية من الأزمات مع إغلاق عقل الجانبين يطول ويدفع ثمنه البسطاء والشرفاء والمخلصون من الجانبين؛ فهل تكتفي الجماعة بما كان وبأدبيات واهمة لإدارة مشهد لم تحسنه قبل الحكم ولا أثناءه ولا بعده؟
للأسف هذه هي المرة الثانية على مدار أكثر من 60 عاما الذي تسقط الجماعة فيه في مثل هذا الفخ، مع اختلاف في التفاصيل وتوافق في المقدمات والنتائج، ويبدو أن محنتها الحالية ستكون المنهية لها لو لم تفق قياداتها. فليست محاربة معارضيها في الرأي والتوجه هي الحل، بل الاستفادة ما أمكن من آرائهم هو الحل، ولتدرك تلك القيادات أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان أول المرحبين بالخلاف معه، وكذلك كل الدول والنظم والجماعات الناجحة تاريخيا.
(6)
سيختصر البعض كل ما سبق في سؤال: ما الحل؟ وماذا كنت تفعل لو كنت مكاننا منذ البداية؟
أما السؤال الثاني فلا سبيل لإعادة المشهد المتنهي، وأما الأول فإنه إن كان يطلق على سبيل التعجيز فلا رد له، أو أنه سؤال حقيقي فإن الحل بسيط: التجرد من الأهواء، والتدبر في تاريخ الصراعات في هذا العالم، وكيفية الأخذ الحقيقي بالأسباب في حياة الرسول العظيم والأمم الناجحة، ودراسة القوة في حياة الرجال والأمم والجماعات، وكيف جاءت بشجاعة أخذ القرار المناسب ولو مثل "تجرعا للسُّم" في سبيل أن يحيا الناس حياة لائقة.. مع إمعان النظر في موقف الرسول العظيم في صلح الحديبية، وسيف الله المسلول خالد بن الوليد في غزوة مؤتة، ونجم الدين أربكان (رحمه الله) من انقلاب 1997م.
(7)
بقي أن الصراع الحالي في مصر ليس من أجل "الإسلام والحفاظ عليه"، والكلمات الأخيرة نخطها من أجل الحقيقة كسابقتها؛ ومن أجل الحفاظ على نصاعة ووضوح هذا الدين؛ الصراع في مصر صراع سياسي بين أقرب للحق وأقرب للباطل، وإن كان كثير من قادة النظام مخطئين بل مجرمين، والكثير من الطرف الآخر مظلومين؛ ولكن متى كان الثبات على الضعف نصرة له؟
مطلوب أخذ خطوات عملية تُطلق بصورة عالمية لتقيم الحجة وتحرج النظام الحالي وتعيد الأمور إلى نصابها، وتنهي بالتفاوض صراعا لن ينتهي في المدى المنظور بغيرها.
هل يكون رمضان فرصة لإعادة التفكير والمواقف الشجاعة المناسبة من جانب الإخوان الذين يمكن التوجه إليهم بالحديث على النقيض من النظام الحالي في مصر؟.. نتمنى، وما ذلك على الله بعزيز.
يبقى أن كاتب هذه السطور كان يتمنى أن يخفف من عنفوان بعض الكلمات، بل يقول ما هو أفضل منها، ولكنه لا يملك إلا أن يردد مع الراحل "صلاح عبد الصبور": "معذرة صحبتي.. قلبي حزين من آين آتي بالكلام الفرح؟!".
لطف الله بنا وبمصر وبكل المخلصين في العالم.