هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يبدو الصراع في ليبيا مقتصرا هناك على مواجهة بين حفتر من جهة وقوات الثوار في خندق مقابل، بل إن الصراع ليس صراعا بين حفتر ومن معه من القوى الدولية المتحالفة من مرتزقة ومليشيات وتنظيمات إرهابية وجيوش دول وتمويلات بآلاف المليارات من جانب وقوى ثورة فبراير من جانب آخر. يبدو المشهد الليبي واجهةَ الصراع وعناصره المرئية الظاهرة للعيان فقط وهي بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة أو قطعة الثلج التي يسبح تحتها جبل الجليد الضخم.
يستقي هذا الإقرار وجاهتَه من الاهتمام الدولي الذي يحظى به الملف الليبي رغم طغيان أنباء الجائحة على أخبار العالم. كما يستمد أهميته من مجموع القوى المحلية والإقليمية والدولية المتصارعة هناك، وهو الأمر الذي يؤكد أن المعركة في ليبيا والصراع الدائر لا يمكن اختزالهما في طرفي المواجهة على الأرض.
في البدء كانت ثورة فبراير
ما يحدث في ليبيا اليوم هو امتداد طبيعي للانفجار الكبير الذي عرفته المنطقة العربية منذ انطلاق شرارة ما عُرف بعدها بالربيع العربي من تونس. ثورات الشعوب التى دُشّنت أواخر سنة 2010 وبداية سنة 2011 هي السياق الأهم الذي تندرج فيه الأحداث التي تعيشها ليبيا اليوم بل إن قراءة موضوعية للمشهد الليبي تستلزم استحضار الفترات التي امتدت منذ تاريخ الانقلاب الدامي على الملكية في 1969.
إن انقلاب القذافي على الملكية وتدشين الحقبة العسكرية التي ستمتد أكثر من أربعين سنة هو كذلك إطار عام تندرج فيه كل الانقلابات العسكرية التي عرفتها المنطقة في مصر والعراق وسوريا واليمن وتونس والسودان وموريتانيا. إنه السياق الذي سيؤسس وهمَ الدولة الوطنية وهي السلطة السياسية القمعية التي ستندلع الثورات للتحرر منها.
ليبيا مشهد عربي يختزل الصراع بين مطلب الحرية الذي دفع شعب ليبيا ثمنه غاليا وبين مجاميع ومليشيات إرهابية ومرتزقة يدعمهم نظام دولي ونظام عربي يريد إعادة البلاد إلى مربع الاستبداد.
كانت ثورة فبراير فاتحة الموجة الثانية للثورات العربية لأنها كانت أولى الثورات المسلحة قبل الثورة السورية في حين كانت ثورة تونس ومصر ثورتين سلميتين. فرض القذافي على شعبه استعمال السلاح عندما استجلب مبكرا المرتزقة والمليشيات لإخماد الثورة فبادروا بالهجوم على الأحياء وقتل المدنيين مما أجبر الشعب الليبي على حمل السلاح لحماية نفسه.
مثلت هزيمة القذافي ومقتله على يد شعبه بعد أشهر طويلة من القتال والمدّ والجزر صدمة كبيرة للنظام الرسمي العربي المؤسس على القبضة العسكرية. أرعب المشهد الكيانات السياسية الحاكمة الأخرى خاصة في الخليج وفي دولة الكيان المحتل الذين رأوا فيه بداية نهاية نصف قرن من هيمنة القمع المتحالف مع الاستعمار.
ليبيا والمسار الانقلابي
بعد الانتصار على القذافي دخلت ليبيا المرحلة الأخطر في ثورتها، لأن القذافي ولجانه الثورية لم يكونا غير الواجهة الخارجية للنظام، أما خطوط الإمداد الاقليمية والدولية لنظامه فلا تزال فاعلة. انطلقت بعد ذلك العملية السياسية وكانت دليلا على حجم التشرذم والتشتت الذي تعاني منه النخب الليبية بعد أن فشلت في وضع خلافاتها القبلية والجهوية والعشائرية والإيديولوجية جانبا لإنقاذ الوطن. بل كرّست مبدأ الفرقة وساهمت في انكسار المشروع الانتقالي كما فعلت قبلها النخب السورية والمصرية والعراقية في سياقات مشابهة.
تدخلت في فترة لاحقة الأجندات الأجنبية سواء منها تلك الإقليمية الراعية للانقلابات بالمال الخليجي الفاسد والتي تشرف عليها الإمارات والأجندات الدولية التي ساهمت فيها دول كثيرة منها روسيا وفرنسا وإيطاليا سواء بالسلاح أو بالمرتزقة والجنود أو بالخبراء. أشرفت الأمم المتحدة عبر مبعوثها الخاص على المسار الانتقالي وساهمت في ضرب وحدة الصف الليبي عبر اصطفافها مع المحور الإماراتي الذي موّل انقلاب حفتر وحوّل المسار الانتقالي الليبي إلى حرب تحرير جديدة يخوضها الليبيون لاسترجاع وطنهم.
بالرغم من وضوح المشروع الانقلابي الذي يمثل امتدادا طبيعيا لمشروع الانقلاب المصري فإن القوى العربية العاملة على نشر الفوضى في ليبيا وإلحاقها بالمشهد السوري أنفقت المليارات من الدولارات للسيطرة على العاصمة. لكن رغم كل الوعود والأموال والمرتزقة من الجنجاويد والمداخلة وشركة فاغنر الروسية والتشاديين والمصريين والخبراء الإماراتيين إلا أن المشروع الانقلابي لم ينجح.
أهمية الانقلاب في ليبيا
لكن لسائل أن يسأل لماذا تراهن القوى الدولية والعربية على ليبيا؟ ولماذا تصرف الدول الخليجية كل هذه الأموال على مجرم الحرب حفتر وهو الذي يتنقل من هزيمة إلى أخرى؟
الجواب سهل وواضح؛ فالدول الخليجية النفطية وخاصة منها السعودية والإمارات مستعدّة لإنفاق ثروتها بأوامر خارجية من أجل المحافظة على العرش ومنع سقوط النظام الرسمي العربي الذي تتحكم فيه. نجحوا في مصر وتمكنوا من الانقلاب على الرئيس المنتخب بحجة محاربة الإخوان وكان الثمن ثقيلا في الأرواح وخاصة في إجهاض التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة.
بعد مصر كان الدور على ليبيا وتونس لكن الفشل كان حليفهم في تونس رغم الأموال التي صرفتها الإمارات على الإعلام الانقلابي وعلى المشهد السياسي هناك. أما في ليبيا فإن أهمية البلاد الاستراتجية من ناحية المساحة والثروات وضعف عدد السكان والموقع المطل على المتوسط والممتد إلى عمق الصحراء نحو إفريقيا كلها تجعل منها محطّ أطماع القوى الدولية. كما أن الدول العربية مثل مصر والإمارات تعمل على بسط يدها ونيل نصيبها من الكعكة بعد نجاح الانقلاب كما كانت تعتقد.
المعركة في ليبيا معركةُ أمة وليست معركة إقليم لأن نتائجها ستحدد مصير مسارات الانتقال والتغيير التي لا تزال تتفاعل في مختلف الدول ومناطق النزاع.
الصراع في ليبيا لا يخصّ ثوار ليبيا وشعبها الذي يرفض العودة إلى سلاسل العسكر بل هو يخص كامل المنطقة وخاصة دول الجوار وعلى رأسها تونس. إن هزيمة المشروع الانقلابي الذي يقوده حفتر يعني توقف المشروع الانقلابي الذي قادته دول الخليج منذ 2012 وتوّج بانقلاب مصر وبانتشار الفوضى في كامل الإقليم. كما أنه سيعطي المجالات الثورية الأخرى خاصة في تونس فرصة للتنفس والعمل على إنقاذ مسارها الانتقالي بسبب الظرف الدولي الملائم، سواء بفضل انهيار أسعار النفط أو بسبب جائحة الوباء التي ضربت دول العالم.
المعركة في ليبيا معركةُ أمة وليست معركة إقليم لأن نتائجها ستحدد مصير مسارات الانتقال والتغيير التي لا تزال تتفاعل في مختلف الدول ومناطق النزاع. إن نجاح ثورة ليبيا سيقدّم زخما عظيما للمسار التونسي كما سيسمح لدولة عربية جديدة بالخروج من ربقة النظام الرسمي العربي باعتباره الحامي الأول للاستبداد والقمع والفساد.
تكون ثورة ليبيا أول ثورة عربية مسلحة تنجح في إسقاط الاستبداد ثم إفشال الانقلاب ودحر مشاريع الوصاية الدولية التي تريد إعادة البلاد إلى مربع الحكم الفردي. صحيح أن دول الإقليم المباشر وخاصة تونس والجزائر المعنية مباشرة بالصراع في ليبيا لم تقدّم يد المساعدة للثورة والثوار بأوامر دولية رغم أن مصر منخرطة عسكريا وبشكل مباشر في إجهاض الثورة والمسار الانتقالي. لكن التدخل التركي كان له دور فاعل في دعم الثورة وفي إجهاض محاولات السيطرة على العاصمة طرابلس خاصة من جهة تحييد القدرات الجوية لطيران المليشيات والمرتزقة.
ليبيا مشهد عربي يختزل الصراع بين مطلب الحرية الذي دفع شعب ليبيا ثمنه غاليا وبين مجاميع ومليشيات إرهابية ومرتزقة يدعمهم نظام دولي ونظام عربي يريد إعادة البلاد إلى مربع الاستبداد. ستكون ليبيا حتما بوابة الحرية الجديدة نحو نظام عربي وليد يُلغي زمن الحاكم بأمره وزمن القائد الأممي ويفرض إرادة الإنسان بقوة الثورة وبقوة إرادة الحياة وبقوة السلاح متى فُرض عليه ذلك.