هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
منذ بداية الأزمة الصحية التي تضرب العالم مشرقا ومغربا والسباق على أشدّه بين المخابر ومراكز البحوث والمستشفيات من أجل الفوز بلقاح قادر على وقف زحف الوباء وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح الأبرياء. السباق محموم كذلك بين الدول والحكومات وأصحاب القرار في سبيل إنقاذ المجتمعات من كارثة صحية قد تعصف بالبلاد والسلطة الحاكمة على حدّ سواء.
ففي المجتمعات الديمقراطية، حيث الحاكم المنتخَب تخشى الحكومات من آثار الوباء على المجتمع وعلى مستقبلها السياسي الذي ستقرره طبيعة تعاملها مع الأزمة وقدرتها على الحدّ من آثارها المهلكة. أما في الأنظمة الاستبدادية والشمولية العسكرية فإن خطر الوباء إنما يقتصر على الاقتصاد والمال وعلى مصالح الطبقة الحاكمة فقط دون اعتبار كبير لآثاره على المجتمعات والشعوب.
خلال الأيام القليلة الماضية قامت دول كثيرة بإقرار رفع الحظر الجزئي على حركة السكان والأفراد وبعض الأنشطة الخدمية الأساسية مع الإقرار بأن الخطر لا يزال متربصا وأن إمكانية اندلاع موجة وبائية جديدة أمر محتملٌ بل شديد الاحتمال. ورجّح كثيرون أهمية نظرية "مناعة القطيع" وهي تتأتّى من قدرة المجتمعات على تكوين مناعة جماعية والتحصن من الوباء بتعوّد الأفراد على مقاومته والتعايش معه.
مفهوم القطيع
بقطع النظر عن صحة هذه النظرية على المستوى العلمي أو الطبي فإنها تمثل من وجهة نظر تحليلية منوالا وإطارا قد يساهم في تبين مفهوم العلة والسلامة عند الفرد والجماعة. ليس مصطلح القطيع في التسمية العلمية استنقاصا أو إساءة بل هو لفظ علمي مخبري يحيل على قدرة المجموعة على التعامل مع الخطر الوبائي بشكل جمعي يُكسبها قدرة على مقاومته والقضاء عليه.
لا شك أن الأمة اليوم تمرّ بمنعطف خطير فعلى الجبهات الدامية في ليبيا وفي سوريا وفي العراق واليمن وفلسطين لا تزال شعوبنا تقدّم أعظم دروس التضحية عبر قوافل المجاهدين والشهداء. لكنها في أقطار أخرى لا تزال سجينة منطق القطيع حيث نجح الاستبداد في تخديرها وفي منعها من تطوير مناعة حقيقيّة ضد خطاب التزييف
لكن من جهة السياسة والممارسة السياسية فإن مفهوم القطيع يشير إلى المجموعة والمجتمع ويُخبِر عن آليات السيطرة والتحكم والرقابة التي تمارسها السلطة السياسية والأمنية العسكرية على الفرد والجماعة. القطيع هو في الآن نفسه هدف سياسي يُحوِّل المجتمعَ إلى كتلة صماءَ تابعةٍ وقابلة للتسيير والتحكّم والتوجيه وهو كذلك واقع جمعي يعكس حال كثير من الشعوب العربية التي لا تملك من قرارها شيئا.
هل من المبالغة القول بأن الشعوب العربية تعاني من مرض القطيع؟ هل طورت شعوب المنطقة مناعة القطيع ضد التغيير وضد رفض الظلم وضد مقاومة الاستبداد؟ هل استكانت ورضيت بالأمر الواقع أم هي لا تزال تقاوم؟
لا شك أن الأمة اليوم تمرّ بمنعطف خطير فعلى الجبهات الدامية في ليبيا وفي سوريا وفي العراق واليمن وفلسطين لا تزال شعوبنا تقدّم أعظم دروس التضحية عبر قوافل المجاهدين والشهداء. لكنها في أقطار أخرى لا تزال سجينة منطق القطيع حيث نجح الاستبداد في تخديرها وفي منعها من تطوير مناعة حقيقيّة ضد خطاب التزييف ومنطق الترهيب وسياسة القمع والاستبداد.
كل الجهود وكل المليارات والجيوش والأسلحة التي تتحرك اليوم في المنطقة إنما هدفها منع انتقال العدوى الثورية إلى بقية شعوب المنطقة. صرفت دول الخليج مليارات الدولارات من أجل إنجاح الانقلاب في مصر وها هي اليوم تصرف مليارات أخرى على مشروع انقلابي في ليبيا من أجل أن لا يغادر القطيع حظيرته فيُغري بقية القطعان بذلك.
الراعي والذئاب
إذا غادرنا المنوال السياسي وعدنا إلى المنوال الطبي فإن العالم المتحضر قد قرر إعادة عجلة الاقتصاد ورفع الحجر عن كثير من الدول. هذا القرار الذي سانده كثيرون وعارضه كثيرون خوفا من انطلاق موجة عدوى جديدة هو في الحقيقة مجازفة كبرى لأنه يشبه قفزة في المجهول لا يعرف صاحبها أين ستستقرّ.
الثابت أن قوى المال والأعمال أصبحت أكثر من أي وقت مضى تخشى من أزمة عالمية شبيهة بأزمة الكساد الكبير التي ضربت الاقتصاد العالمي أواخر العشرينيات من القرن الماضي. وهي قوى مستعدّة للتضحية ببعض القطيع من أجل نجاة الراعي والذئاب إن لزم الأمر وإلا فكيف نفسّر رفع الحجر في كثير من الدول رغم أنّ الخطر لا يزال قائما بل هو في أعلى مستوياته في أماكن كثيرة من العالم. صحيح أن بقاء الحجر ساريا ستكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي وسيتسبب في إفلاس كثير من الشركات والمؤسسات لكن حصول موجة عدوى جديدة سيكون أشد خطر على الاقتصاد وعلى السوق وعلى الاستهلاك.
في دول مثل مصر أو سوريا أو العراق أو السودان لم تكلف الحكومات نفسها عناء الحجر الصحي التام وإغلاق المدن بشكل كامل في مجازفة مرعبة بحياة الملايين من البشر. بل إن حكومات معينة أطلقت أذرعها الإعلامية للتقليل من خطر الوباء أو للسخرية منه كما حدث في مصر.
لم تكشف أزمة مثل أزمة هذا الوباء عن هشاشة النظام العالمي وعن الفساد الكبير الذي تعاني منه المنظمات الدولية والحكومات التي تصرف سنويا آلاف المليارات من الدولارات على التسليح في حين لا تملك مستشفياتها أسرّة كافية لاستقبال المرضى. كما تكشف كذلك عن خطورة الإنسان وخطورة المختبرات التي تعمل على تعديل البناء الجيني للجراثيم والفيروسات وتتلاعب بخصائصها بشكل قد يتسبب يوما في إبادة الجنس البشري من على وجه الأرض. الراعي العالمي والذئاب المحيطة به قابلة للتضحية بجزء من القطيع بشرط أن يسلم الراعي وأن تسلم الذئاب.
لكن لو تركنا المنوال الوبائي وعدنا إلى المنوال العربي لمفهوم مناعة القطيع سياسيا وطبيا فإننا سنجد أنفسنا أقرب كثيرا إلى حال المفعول به بشكل يتجاوز فداحة المنطق العالمي في التعامل مع الأزمة. في دول مثل مصر أو سوريا أو العراق أو السودان لم تكلف الحكومات نفسها عناء الحجر الصحي التام وإغلاق المدن بشكل كامل في مجازفة مرعبة بحياة الملايين من البشر. بل إن حكومات معينة أطلقت أذرعها الإعلامية للتقليل من خطر الوباء أو للسخرية منه كما حدث في مصر.
أما على المستوى السياسي فقد أكدت الأزمة أن الصحة وسلامة الإنسان العربي إنما تُعتبر آخر هموم السلطة السياسية وهو أمر لا يتعلق فقط بترهل البنية الاستشفائية في كثير من الدول بل إنه يتجاوزها إلى غياب شبه كلي لالتزام الدولة بحماية المجتمع. تبدو الذئاب العربية أشرس بكثير من الذئاب العالمية التي تحافظ على حذرها الشديد من شعوبها التي انتخبت الراعي أما في مزارع سايكس بيكو العسكرية خاصة فإن الراعي والذئب واحدٌ وهو لا يخشى غير ثورة تقتلعه من جذوره وتحوّل القطيع إنسانا حرّا صانعا لكرامته وصائنا لحقه في الوجود.