هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في قلب مدينة صنعاء، توجد أقدم مقابر هذه المدينة التاريخية، تسمى مقبرة خُزيمة، اقترن وجود هذه المقبرة بتاريخ المدينة الممتد لآلاف السنين. وعبر هذا التاريخ الطويل استقبلت المقبرة آلاف الجنائز ولا تزال تستقبلها حتى اليوم، وإن تقلص العدد إلى مستوياته الدنيا أيامنا هذه.
ويُعزى ذلك إلى أن المقبرة لم تعد تستوعب المزيد من الموتى، بالنظر إلى أن مساحتها تقلصت بسبب النمو العمراني وحاجة المدينة إلى شق طرقات لتسهيل الحركة بين أنحاء المدينة.
اعتاد الناس على أصوات المشيعين وهم يرفعون أصواتهم بالتهليل والتكبير، كسمة من سمات تشييع الجنائز في هذه المدينة، لكن الجنائز هذه الأيام لا تحظى بالقدر ذاته من الاحتفاء، ولم يعد المشيعون يسيرون خلفها.
أظهرت صورة من مقبرة خزيمة عدداَ محدوداً جداً من الأشخاص وهم يقومون بدفن أحد ذويهم، في إطار الاحتياطات التي تتخذ منعاً لانتقال وباء كورونا للأحياء من ذوي ومعارف من سقطوا جراء استشراء هذا الوباء، ليبقى هذا المشهد أحد الأمثلة القليلة جداً على النهايات التي احتفظ معها بعض الموتى بكرامتهم وهم يغادرون الحياة بتأثير هذا الوباء العالمي القاتل.
فقد أظهر فيديو أحد الأشخاص مرمياً في أحد شوارع العاصمة صنعاء، بعد أن فارق الحياة جراء الوباء، وقبل أن يأتي شخصان من الجهات المعنية لأخذه من الشارع ونقله إلى أحد المقابر، في دلالة لا تقبل الشك على أن صنعاء، كما هي عدن، أصبحت مدينة موبوءة يفتك كورونا بأهلها، في ظل مكابرة غير مفهومة من جانب الحوثيين الذين اضطروا منذ أيام فقط إلى الإقرار بوجود حالات إصابة بفيروس كورونا؛ كان الغريب فيها أن أول حالة مصابة وجدت ميتة في أحد فنادق المدينة.
قبل يومين خرج 65 طبيباً ببيان أخلوا فيه مسؤوليتهم إزاء التداعيات الكارثية للجائحة المسكوت عنها من جانب الحوثيين، داعين سلطة الأمر الواقع في المدينة إلى اعتماد الشفافية في الإعلان عن حالات الإصابة.
الأطباء أنفسهم، وبعضهم قريبون من جماعة الحوثي ولا يعارضونها أصلاً بل يعملون تحت سلطتها، طالبوا بتشديد إجراءات الوقاية والتي تقتضي إغلاق الأسواق والتجمعات والمساجد، ونشر التوعية بأهمية التباعد الاجتماعي خلال هذه الفترة. كما طالبوا بتأمين الحماية لكافة الطواقم الطبية التي توفي العديد من أفرادها جراء الإصابة بكورونا، على الرغم من أن ظروف وفاتهم بقيت خارج الإقرار الرسمي من جانب سلطة الأمر الواقع التي يفرضها الحوثيون في العاصمة السياسية لليمن.
تفرض سلطة الأمر الواقع إجراءات مشددة لإبقاء الأمر على حاله من التعتيم، وتكتفي بفرض الحجر الإجباري على العائلات التي تفقد أحد ذويها بهذا الوباء، ومعها السكان المجاورون، ولا تتعدى الإجراءات هذا الحد، الأمر الذي أبقى صنعاء، وهي أكبر مدن اليمن من حيث عدد السكان، تحت رحمة هذه الجائحة، التي يزيد من خطورتها أن عشرات الآلاف من سكانها يستعدون للتوجه إلى قراهم ومدنهم لقضاء إجازة عيد الفطر كما درجت العادة، حيث تفرغ المدن الكبرى في مثل هذه المناسبات، بكل ما يحمله ذلك من مخاطر هائلة على سكان القرى الذين لا يزالون حتى الآن في منأى عن جائحة كورونا.
تتقاسم مدينة عدن الظروف السياسية والأمنية ذاتها، ففي مقابل مليشيا الحوثي المهيمنة في صنعاء، تهيمن مليشيا المجلس الانتقالي المدعوم من الإمارات على مدينة عدن، وقد ساهم غياب السلطة الشرعية عن هذه المدينة منذ آب/ أغسطس من العام الماضي، في تفاقم الوضع البيئي والصحي والاقتصادي والمعيشي للمدينة، خصوصاً أنها شهدت قبل أسابيع سيولاً جارفة أغرقت أجزاء كبيرة من أحيائها، ما أدى إلى انتشار الأوبئة القاتلة التي تدخل في ضمن قائمة الحُميات، ولتضاف إلى جائحة كورونا التي بات تأثيرها كبيراً في هذه المدينة البحرية الواقعة جنوب البلاد.
قائمة الموتى الذين تودعهم عدن شملت حتى الآن نحو 600 وربما أكثر من حالات الوفاة، العشرات من هذه القائمة أطباء وأساتذة جامعة وإعلاميون وكوادر من مختلف التخصصات، ما يشير إلى حجم المأساة وإلى العدد الكبير من الإصابات.
زيادة عدد الموتى الذين يحصدهم وباء كورونا وحمى الضنك وغيرها من الأوبئة الأخرى دفعت الأهالي إلى تخصيص مقابر جديدة يتم تداول صور عنها في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، وتظهر حجم الكارثة التي حلت بالمدينة.
والأسوأ من ذلك كله أن مدينتي عدن وصنعاء المنكوبتين بالانقلابات وبالمليشيات، ومعهما مدن أخرى ومحافظات كمحافظة تعز وحضرموت، تواجه مشكلة غياب الطرف المسؤول الذي يمكن أن يدير أزمة كورونا ويحشد الجهود لمواجهتها ويستدعي المساعدات الدولية اللازمة لمواجهة الوباء. اليمن للأسف شبه مغلق أمام الجهد الدولي المساند، بسبب الحصار ذي الطبيعة السياسية الذي يفرضه تحالف الرياض- أبوظبي ويحول دون وصول المساعدات الخارجية إلى اليمنيين.
ولعل من بين أهم المساعدات تلك التي كانت الحكومة التركية قد استعدت لتقديمها للشعب اليمني، ولم تحصل على رد من التحالف حتى الآن بشأن الموافقة على إيصالها إلى هذا الشعب المنكوب.