قضايا وآراء

بومبيو والنكبة.. وحمار اللورد اللنبى

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
منذ شهرين لم يخرج مسؤول أمريكى بحجم وزير الخارجية خارج الولايات المتحدة؛ التي تعاني هذه الأيام معاناة أليمة من جائحة كورونا (أكثر من مليون مصاب وأكثر من 88 ألف متوفى).. لكن بومبيو خرج، وحين خرج ذهب إلى إسرائيل، وحين ذهب قرر أن يذهب في ذكرى النكبة الـ72 لضياع فلسطين، زيارة خاطفة لمدة يوم.. الإشارة لا تخطئ العين دلالتها، إنه يوم من أهم الأيام في مخزون العقل الغربي (المسيحيي).. تأسيس (بنت صهيون) إسرائيل.

العقل الغربي المسيحي مولع باستدعاء الذكريات من الماضي وتفجيرها في وجه الحاضر والحاضرين.. تطبيقا لنظرية "من لا يشترى.. يتفرج"، وبما أننا في "عصر الفرجة" كما قال عمنا الروائي الكبير ماريو يوسا (84 عاما)، فطبيعي أن تكون عناصر الفرجة متوافرة، وأهمها وأوقعها بالطبع أن تلقي بالمشهد في حجر التاريخ فتجعله موصولا بـ"القدر" المحتوم الذي لا يمكن أن يُغالب..

اللورد اللنبي (1861- 1936م) حين دخل القدس في 6 كانون الأول/ ديسمبر 1917م بعد الانتصار على القوات العثمانية في الموقعة المعروفة.. أصر على دخولها وهو على راكب ظهر حمار، كما فعل السيد المسيح عليه السلام. أنت هنا لا ترى قائدا عسكريا بين جنوده دخل مدينة بالقوة العسكرية، أنت هنا تكاد ترى السيد المسيح نفسه وهو بين حوارييه يدخلون القدس. فما تراه ليس إلا قدَرا محتوما، موصولا حاضره بماضيه.. وسيذهب إلى كنيسة القيامة ليقول جملته الشهيرة:اليوم انتهت الحروب الصليبية.

الجنرال الفرنسي هنري غورو (1867- 1946م) حين دخل دمشق سنة 1920م كان أول شيء فعله أن ذهب وسط جنوده إلى قبر صلاح الدين الأيوب (1138- 1193م).. لا ليقرأ له الفاتحه فهو بالطبع لا يحفظها، ولكن ليقول لمن يعيش هذا المشهد في هذه اللحظة "ها قد عدنا يا صلاح الدين".

ترامب نفسه حين أصدر قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس جاء في نفس التاريخ الذي دخل فيه اللورد اللنبي القدس (6 كانون الأول/ ديسمبر 2017م)..

الغرب مهووس بالتواريخ المتوافقة ذات الرسائل والدلالات الناطقة، للسبب الذي ذكرته سابقا وقد يكون صحيحا.. تذكرون أن مؤتمر مدريد 1991 م للسلام عقد في مدريد تحديدا بمناسبة مرور 500 عام بالتمام والكمال على سقوط غرناطة (1491م).. الرسالة قالت وسط كؤوس الأنخاب وابتسامات الأصدقاء والأحباب: لن تأخذوا من إسرائيل إلا ما أخذتموه من غرناطة!

العملية التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في نيسان/ أبريل الماضي لمنع تركيا من دعم حكومة الوفاق المعترف بها دوليا؛ اختاروا لها اسما يتفجر بالمعنى والإشارة والتهديد، "إيريني"، على اسم القديسة اليونانية الشهيرة التي يتواجد رفاتها في ديربرونت بجزيرة ساموس اليونانية.

* * *

جاء بومبيو.. غادر بومبيو.. نعرف لماذا غادر.. لكننا لا نعرف لماذا جاء. هل لتأييد ودعم إسرائيل في قرار ضم الضفة وغور الأردن ويكون الدعم في تاريخ "النكبة"؟ نتنياهو كان قد وعد في القرار الأخير بتطبيق السيادة الإسرائيلية على جزء من الضفة الغربية وغور الأردن، المنطقة الاستراتيجية التي تشكل 30 في المئة من مساحة الضفة الغربية. هذه الخطوة قد تدفع الأردن إلى التراجع عن اتفاقية السلام التي وقعها مع إسرائيل في عام 1994م، في حال أقدمت على ضم غور الأردن.. هل يحدث ذلك فعلا؟

هل إيران هي سبب الزيارة. ذاك الموضوع الذي يحمل من السخافة أكثر مما يحمل من السياسة.. هل الصين خاصة لأن العلاقات الصينية الإسرائيلية متميزة هذه الفترة؟ الصين تنشئ أكبر محطة لتحلية المياه في العالم على بعد حوالي 20 كم جنوب تل أبيب، وتقيم منشآت جديدة في مينائين رئيسيين في البلاد (حيفا وأشدود)، بالإضافة إلى عدد من مشاريع السكك الحديدية الرئيسية في البلاد.

العلاقة المميزة بين إسرائيل والصين أثارت استياء واشنطن التي تعتبرها الآن عقبة أمام آمال ترامب في بناء جبهة معادية للصين (إسرائيل باعت تكنولوجيا عسكرية أمريكية للصين في الماضي في تحد لحظر الأسلحة).. وقيل أن بومبيو طلب من الإدارة الجديدة (التقى نتنياهو وغانتس) التحقيق في طبيعة عمل ودور هذه الشركات. هل تلك الزيارة مجرد زيارة انتخابية لترامب لضمان أصوات اليهود والإنجيليين في أمريكا، خاصة ونحن كما نعيش في "عصر الفرجة"، نعيش أيضا في "عصر التفاهة" كما قال عمنا ميلان كونديرا (91 عاما) في روايته الشهيرة "حفلة التفاهة"؟ أيا ما كان السبب، فلم يفت نتنياهو أن يوجه الشكر لبومبيو على أن تكون إسرائيل هي أول محطة يزورها منذ شهرين، في هذه الظروف الغابرة على رؤوسهم أجمعين.

* * *

في كل الأحوال، نحن وكما قال الصديق العزيز عبد الله السناوي: بالقرب من لحظة انفجار جديدة ربما تكون أخطر انعطافه في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، أمام أوضاع الانفجار والتمييز العنصرى الفاضح بلا أدنى غطاء أخلاقي للفلسطينيين، ودعوات التطبيع بالدراما أو السياسة التي هي تدليس على التاريخ وعار حقيقي لا يحتمل ولا يمكن أن يمر.

قليلون يأخذون كلام محمود عباس على محمل الجد لكنه قال: سنعيد النظر في موقفنا من كل الاتفاقات والتفاهمات، سواء مع دولة الاحتلال الإسرائيلي أو مع الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وسنكون في حل من كل تلك الاتفاقات والتفاهمات إذا أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن ضم أي جزء من أراضينا المحتلة، وسنحمّل الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية كل ما يترتب على ذلك من آثار أو تداعيات خطيرة.

* * *

أول دخول لليهود إلى القدس كان زمن داود عليه السلام عام 1000 قبل الميلاد، وسمى المدينة باسمه وبنى فيها الحصون الكبيرة، ثم خلفه ابنه سليمان عليه السلام والذي بنى فيها هيكله المعروف باسمه واستمر حكم اليهود للمدينة 300 عام (كما تقول الروايات التاريخية) تعرضت خلالها لكثير من الغزوات وانتشر فيها وبعدها الفساد والفوضى وعبادة الأوثان، ثم احتلها الفرس عام 586 قبل الميلاد، والذين دمروها تدميرا وأحرقوا الهيكل، وقضوا على وجود اليهود فيها وسبوهم إلى بابل (نبوخذ نصر)، إلى أن سمح لهم الملك قورش عام 538 ق.م بالعودة إليها، عام 332 ق.م وصلها الإسكندر عبر معاركه نحو الشرق وبعد وفاته خضعت لحكم البطالمة في مصر ثم السلوقيين في سوريا الذين دمروا الهيكل عام 165 ق.م. وأرغموا اليهود على اعتناق الوثنية. وفي عام 63 ق.م خضعت المدينة للإمبراطورية الرومانية، تخلل ذلك بعثة السيد المسيح ودخوله إليها على ظهر حمار، وتوالت القرون تلو القرون إلى أن فتحها الفاروق عمر رضى الله عنه عام 636م.

* * *

شلومو ساند (74 عاما)، أستاذ التاريخ بجامعة تل أبيب، بولندي الأصل هاجر إلى إسرائيل عام 1948، وحصل على دراساته الأكاديمية من فرنسا.. الماجستير في التاريخ الفرنسي والدكتوراة عن الماركسية.

هذا الرجل له ثلاثية هامة تتناول قصة إسرائيل: "اختراع الشعب اليهودي"، و"اختراع أرض إسرائيل"، و"كيف لم أعد يهودياً". وكلها مترجمة إلى العربية عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية.

في هذه الثلاثية ينسف الكاتب كل ما قامت عليه إسرائيل من إسقاطات لاهوتية لإخفاء طابعها الإحلالي/ الاستعماري على الأرض الفلسطينية.. يقول: تعبير "الأرض الموعودة" لا وجود له من الناحية اللاهوتية اليهودية.. لقد تم اختراعها. تاريخيا أورشليم كانت لها دائما مكانة تاريخية واعتبارها لدى اليهود، وهي كذلك في المسيحية والإسلام. هذه المكانة التاريخية لا تستدعي أبدا من أي زاوية من زوايا النظر عامل الإقامة والاحتلال الإسرائيلي.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)

خبر عاجل