(1)
سامح الله جون أوزبورن..
كثيراً ما أنظر ورائي في غضب، وأعاتب نفسي على ما فات:
لقد حلمت بالكثير، وقلت الكثير، ووعدت بالكثير، وبشّرت بالكثير، و.. لكن القليل فقط هو الذي "تحقق" من الأحلام، القليل فقط هو الذي "فعلته" من الكلام، القليل فقط هو الذي "وفيت" به من الوعود والمهام، القليل فقط هو الذي..
هل كنت كاذباً؟..
هل كنت ضعيفاً؟..
هل كنت خائناً أو خائفاً أو لاهياً؟..
هل كنت بائعاً للأوهام؟
(2)
أنظر أمامي في قلق، وأسائل نفسي:
ماذا أنتظر؟
هل يجيء جودو بعد طول الانتظار؟
هل يتحقق شيء (ولو قليل) من كل هذا
الأمل الطويل؟
هل يمكن فعلاً (كما يقول تشومسكي) أن ننجز البناء من خلال الدمار؟
(3)
رأيت (وأنا أنظر أمامي) صورة "الرابع من يونيو" موسوما بكلمة "الغد"، ساحرة هذه الكلمة (كلمة الغد).. شغلت خيال البشر في كل الأزمان، استخدمها الجميع في التبشير وفي التخدير على السواء: الحاكم والحالم، النصابون والأنبياء، الموظفون والشعراء، برامج المرشحين وكتب السماء: غداً يكون شيء آخر.. غداً يوم جديد.. غداً ينتصر الضعفاء على الطغاة، غداً يأكل الجياع ملء البطون.. غداً يسترد المظلوم حقه وتنتهي دولة الظالمين.. غداً يعود الغائب.. غداً تعود فلسطين.. غداً يأتي الرابع من يونيو..
(4)
تذكرت (وأنا أنظر ورائي) أن الرابع من حزيران/ يونيو ليس "غد"، لكنه الماضي الذي أنظر إليه فأعاتب نفسي وأعاتب الآخرين..
لم أكن ضعيفا عندما قلت ولم أفعل، فالرئيس الأمريكي باراك أوباما (بكل سلطانه وهيلمانه) جاء إلى بلدي في الرابع من حزيران/ يونيو قبل 11 عاماً، وقال كلاما جميلا عن الحق والعدل والعيش في سلام، بشّر الثكالى واليتامى والمنهكين بالحب ضد الحرب، وعد بحل قضية فلسطين على أساس الرابع من حزيران/ يونيو، وطرق أبواب الحوار مع إيران، وأعلن إنهاء القتل والقتال في أفغانستان والعراق والسودان والصومال ولبنان وكل مكان، وأطلق بداية جديدة لعلاقة صحيحة بين أمريكا وبلاد المسلمين.
لكن الرابع من حزيران/ يونيو الذي تحدث عنه أوباما في الرابع من حزيران/ يونيو (2009) لم يأت، بل توسعت خارطة الدم في بلاد الإسلام لتشمل ليبيا وسوريا واليمن، إلى جانب الفوضى العظيمة ومصائد الإرهاب التي دبرتها أمريكا (باعتراف عدد من مسؤوليها وكتابها) لتحويل الربيع العربي إلى زوابع خماسينية خانقة. لكن درس الرابع من حزيران/ يونيو أقدم من أوباما وبشارته الكاذبة في جامعة القاهرة، وأوسع من نقطة التشابه التي أسعى من خلالها لتهدئة غضبي وتهدئة عتابي لنفسي بأنني أقول ولا أفعل. فها هو الرئيس الأمريكي بكل قوته وأدواته (وقبله وبعده رؤساء آخرون) أطلقوا الكثير من الوعود، ولم يقدروا على تحقيق كلمة مما قالوا..!!
(5)
في الرابع من حزيران/ يونيو 2009 شاهدت القاهرة (عاصمة الزحام) خالية تماماً من البشر، كأنها خرجت من الزمن وعادت إلى مطلع القرن. نزلت مع صديق إلى أحد المطاعم الشهيرة في وسط المدينة فقال ضاحكا: "وديتوا الشعب فين يا حازم؟.. 75 مليون مالاقيش منهم ولا واحد؟"، وهي الجملة التي اشتهرت قبل عام واحد بعد عرض فيلم كوميدي بعنوان "طباخ الرئيس"، ينزل فيه الرئيس لتفقد حياة الناس بنفسه فيتم حظر الناس من الخروج إلى الشوارع لتأمين جولة رجل واحد!!
هكذا رأيت بروفة ناجحة لقدرة الدولة على "الإخلاء"، ومصلحتها الوجودية في تطبيق حالة التباعد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي أيضاً بين الناس والناس، وبين الناس والبلاد.
(6)
المشهد نفسه رأيته على الشاشات هذه الأيام في قلب العاصمة الأمريكية، حيث تكنس الدولة شعبها الغاضب من محيط البيت الأبيض، لأن الرئيس الأمريكي يرغب في الخروج إلى الشارع ليعالج إحساسه بالخجل و"الضرر الانتخابي" من تجربة "الاختباء في القبو"؛ خوفاً من غضب المتظاهرين الذين تجاوزا الخطوط الحمراء والأسوار الداخلية لبيت الحكم، وخوفا من تأثير ذلك على شعبيته قبل انتخابات نهاية العام.
وأمام كنيسة القديس جون وقف الرئيس في لحظة ارتباك وتناقض عجيبة، فقد خرج من القبو إلى الرصيف لتقريب جمهور الناخبين بعد أن أمر بإبعاد جمهور الغاضبين، وقام بتمثيل مشهد "الحاكم الشجاع" الذي يرفع بيده كتاب الدين متوعداً الأشرار بالقصاص، ومبشراً بقدرته على تحقيق العدل والسلام والرخاء.. لكن غداً!!
كأن السنوات الأربع لا تكفي لكي يحقق أي رئيس ما يمكن تحقيقه في يوم واحد.. هو غداً (الرابع من حزيران/ يونيو) الموافق "الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر" حسب تقويم السياسة الأمريكية..
(7)
لن أستفيض في شرح قدرة السلطة على حشد الناس، ثم إخلاء شوارع البلاد منهم حسب الحاجة، لأننا رأينا تجربة تطبيقية واضحة لذلك في ثورة يناير وما بعدها، حيث نصبت السلطة كاميراتها وساعدت بمختلف الطرق والأساليب في حشد الناس وتكثيف حضورهم في الميادين والشوارع، لاستخدامهم في تصنيع المشهد الذي يدبرون خلفه أهدافهم، وبعد أن وصلت ذروة الحشد في "مظاهرات حزيران/ يونيو" و"تفويض تموز/ يوليو"، عكست السلطة أسلوبها وكشفت أهدافها ونادت في الناس: "بيتك.. بيتك"، وتمكنت بقوتها الظاهرة والخفية من تنفيذ عملية "الإخلاء" وكنس الغاضبين من المشهد العام، فالشوارع الخالية تبعث الطمأنينة دائماً في قلب الحاكم الخائف..
(8)
لن أستفيض أيضاً في شرح علاقة العرب بالزمن، إذ تكفي الإشارة إلى متلازمة البكاء على الأطلال في تاريخنا لنعرف أن الماضي هو "قِبلة التائهين" و"يوتوبيا الخانعين"، لذلك فإن الأمل العربي الذي تروجه "أنظمة الهوان" صار تحويل المستقبل إلى ماض، صار أن نعود بالحال إلى الرابع من حزيران/ يونيو، الذي لم يعد موجودا في الواقع، بل في أوهام المدمنين لمخدرات السلطة، التي تهيئ لهم (الأوهام والمخدرات والسلطة) جدوى الاستمرار في انتظار ما لن يجيء..
(9)
لا أحب المواعظ، لكنني لا أحب التغافل عن الحكمة، لذلك أضع خلاصة الدرس الأمريكي في كبسولة فأقول: إن حماية البلاد تبدأ من داخلها، سلوك فلويد لم يضر بأمن الولايات المتحدة، بل أضرها سلوك الضابط المسؤول عن الأمن. علبة سجائر فلويد لم تخرب اقتصاد البلاد، لكن الخراب يحدث بسبب الظلم، بسبب
العنصرية، بسبب التغاضي عن محاسبة السلطة لنفسها، فهل تتعلم السلطة الدرس وتعرف كم خسرت أمريكا في "موقعة العشرين دولارا" التي خاضتها الشرطة ضد العاطل الفقير؟
(إشارة)
قبل إنهاء المقال أحب أن أشير إلى أن تعبير "الرابع من يونيو" قريب الصلة بحالة الوهم الأمريكي العظيم، لأنه يوحي بيوم "الرابع من يوليو" عيد الاستقلال الأمريكي الذي استخدمه أحد المحاربين الأمريكيين الشباب في حرب فيتنام عنوانا لمذكراته التي فضحت بشاعة السلطة في تدمير حياة الناس. قلت "حياة الناس" ولم أقل "حياة الأعداء" التي تحشد السلطة الكثير من الطيبين المسالمين لمحاربتهم، لأن السلطة تدمر حياة جنودها المحاربين أنفسهم، عبر الزج بهم في معارك خاطئة، وتحويلهم إلى أدوات عنف وقتل بلا فهم ولا عقل، فيعود الناجي منهم (إذا اكتشف الخدعة) ليحارب سلطة بلاده في الداخل، يعود لإنسانيته المفقودة فيعارض الحرب، ويعارض القمع، ويعارض الكذب، ويعارض إخراس الناس، ويعارض كنسهم من الشوارع، وهو ما قدمه أوليفر ستون (المخرج المناهض لفاشية السلطات) في فيلم عميق وفاضح عن مذكرات الجندي رون كوفيك "المولود في الرابع من يوليو"..
والخدعة مستمرة..
[email protected]