تعبر الفوضى عن تقييم لحالة الاضطراب كسلوك بشري، وتشير أيضا إلى تقصير في أداء الواجب.
وقد رسخت التغطية
الإعلامية للاحتجاجات التي تلت مقتل جورج فلويد، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، لنظرية الفوضى.
وليس الأمر مستغربا في الولايات المتحدة، فهذه القضية
تاريخها طويل رافقه تحيز إعلامي ضد
احتجاجات السود التي غالبا ما وُصفت بأعمال الشغب على مدى هذا التاريخ، حسب الأستاذ دانييل كيجلو من جامعة إنديانا.
لقد حاولت بعض وسائل الإعلام الأمريكية المؤيدة لترامب تضخيم الفوضى على أنها سلوك أساسي للمحتجين، بهدف النيل منهم، بينما سعت وسائل الإعلام المناوئة للرئيس الأمريكي إظهار تقصيره في معالجة الأزمة من خلال الوسيلة نفسها.
تجارب التغطية الصحفية للربيع العربي وغيرها من المظاهرات الطويلة، والاحتجاجات الساخنة، كشفت أن في مثل هذه الأحداث تقع عمليات شغب وفوضى وسرقة ونهب، وفي الغالب من يقوم بهذه الجرائم ليس لهم علاقة أصلا بالاحتجاجات، وأن استخدام بعض المحتجين للعنف لا ينفي أن ميزان القوى يميل لصالح الشرطة، كما يتخفى
رجال الشرطة في ملابس مدنية أو صحفيين أو مندسين بين المتظاهرين، أو نشر أفراد لاستفزاز الشرطة ثم ينسحبون ويتركون المتظاهرين عرضة
للغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والهراوات.
مهمة الصحفي في
الاحتجاجات بيان سبب الاحتجاج وتفاصيله، أما الأضرار المتعلقة بالممتلكات لو شهدت الاحتجاجات تخريبا لهذه الممتلكات فهذا التخريب جزء من القصة وليس القصة الأساسية، لأن القصة الأساسية هي الشعور بالظلم الذي يخلفه التمييز العنصري والألم من انعدام الحقوق الأساسية بسبب لون البشرة الذي لا يختاره أحد لنفسه.
معلوم أن أصل الاحتجاجات على
مقتل فلويد هو التعبير السلمي عن الغضب بعد أن قتل شرطي أبيض مواطنا أسود. وقد تبلور هذا الاحتجاج في شعارات مثل "العدالة لجورج فلويد" و"العدالة لا تستطيع الانتظار" و"حياة السود مهمة" و"لا أستطيع التنفس".
صحيح أن البعض حمل شعارات اعتبرت تحريضية، مثل "لا سلام بدون عدالة"، وسرق ونهب آخرون المحلات التجارية وأحرقوا سيارات الشرطة، لكن هل يستطيع أحد الجزم أن هؤلاء من المحتجين؟
في نفس الوقت كانت للرئيس الأمريكي مواقفه السياسية وقرارته التنفيذية الطامعة في ولاية ثانية وإظهار الحسم والسيطرة، ولم تقف الشرطة مكتوفة الأيدي أمام الاحتجاجات.
ما سبق يعني تنوع الصورة والمواقف والآراء، والفعل ورد الفعل، لكن ما عكسته تغطية القنوات التلفزيونية العربية للحدث هو انعدام التوازن في التعبير عن الفوضى التي رافقت الاحتجاجات، ما جعلها تبدو وكأنها تنال من المحتجين لصالح ترامب، ودليل ذلك:
- تجاهل القصة برمتها يوم وقوعها وفي اليوم التالي لها، بل وتأخر وصول مراسلي القنوات العربية إلى موقع الحدث، وهو أحد أشكال انعدام التوازن في التخطيط للحدث. فقد قتل جورج فلويد يوم 25 أيار/ مايو وبدأت الاحتجاجات في اليوم التالي، لكن معظم القنوات بدأت تغطيتها للحدث يوم 28 أيار/ مايو.
- انساقت بعض القنوات وراء إبراز تصريحات المسؤولين، من ترامب إلى حكام الولايات، في العناوين وفي الأخبار للتنديد بالعنف والسلب والنهب، وليس بنفس القدر سلمية الاحتجاجات.
- سلطت مجمل التغطيات الضوء على بيان حجم النهب والسلب. ففي الوقت الذي ظهرت فيه على بعض الشاشات أعمال عنف في مدينة شيكاغو الأمريكية خلال الاحتجاجات على مقتل جورج فلويد، غابت صورة بحور من البشر في لوس أنجلوس في مظاهرات سلمية.
- غياب ذكر السياق. فعند ذكر عنف المحتجين غابت الإشارة إلى أن
العنف بسبب غضبهم، وأن عنفهم لا ينفي أن ميزان القوى سيبقى لصالح الشرطة. لم تذكر التغطية مثلا
العنف الذي تعرض له الصحفيون من الشرطة. وآخر إحصاء حتى يوم 5 حزيران/ يونيو يُظهر أن 130 صحفيا ومصورا أصيبوا، بينما أبرزت القنوات العربية ما قالته عمدة شيكاغو من أن 20 شرطيا نقلوا للمستشفيات بعد مواجهات يوم السبت في المدينة خلال الاحتجاجات.
- وثقت وسائل إعلام أمريكية تخفّي رجال الشرطة في ملابس مدنية أو صحفيين أو مندسين بين المتظاهرين، أو نشر عناصر تستفز الشرطة ثم تنسحب وتترك المتظاهرين عرضة للغاز المسيل والرصاص المطاطي والهراوات، لكن ذلك أيضا غاب عن تغطية جل القنوات العربية.