كل ما يجري مع العملة
الوطنية
اللبنانية ليس بالطبيعي ولا العادي، في ظل الحديث عن مؤامرة على الليرة
اللبنانية على غرار ما جرى في مطلع التسعينيات مع حكومة المغفور له الرئيس عمر
كرامي، حيث وصلت أسعار الصرف بسبب المضاربين إلى ما يقارب ثلاثة آلاف ليرة لدولار
الواحد، وهوت بالحكومة اللبنانية حينها في الشارع أمام زلزال الناس الذين انُتهكت
حرمتهم المادية أمام عيونهم في نسبة تضخم فاقت كل التوقعات آنذاك.
غير أن الواقع الحالي في ظل سياسة التخبط
الاقتصادي الحاصل لا يبشر بالخير، خاصة بعد كلام دولة نائب رئيس مجلس النواب إلياس
الفرزلي عن خطورة الخطة الحكومية، والتي سيكون مسارها إفلاس المصارف تمهيدا لإفلاس
الناس والدولة، وبالتالي الوصول إلى تفليسة جديدة على غرار بنك إنتر وما جرى مع
يوسف بيدس في ستينيات القرن المنصرم.
واستكمالا، أطلقت جمعية مصارف لبنان خطتها
للإنعاش المالي، في مواجهة خطة الحكومة للإنقاذ المالي، واصفة إياها بـ"الخطة
المحاسبية الإفلاسية"، وليس الخطة الاقتصادية.
وهنا السؤال: ما القادم على الاقتصاد اللبناني
وكل المؤشرات الاقتصادية سلبية بامتياز، بداية من الثقة المفقودة بين الخارج
ولبنان الدولة؟ كيف لا والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي باتت فضيحة مدوية، حيث
الأرقام ضمن الوفد اللبناني المفوض جاءت من كل فريق بما يشتهي: فأرقام مصرف لبنان
غير أرقام وزارة المالية، غير أرقام جمعية المصارف، غير أرقام المعنيين
والمستشارين، وكل يغني على ليلاه؟
وللحقيقة، من يحدد حجم الخسائر للدولة
اللبنانية؟ ومن يحدد من يتحملها؟ وكيف يتحملها؟ ومن يتكفل ضمان ودائع الناس؟ للأسف
نحن في عصفورية مالية اقتصادية نقدية لم يكن ينقصها سوى جنون الدولار في سوق أسعار
فالت عقاله من أي ضابط، في ظل تخبط المسؤوليات بين الصرافين وتجار السوق السوداء،
والحديث عن ضرب جوهر الاقتصاد الحر الذي تميز به لبنان لعقود.
إن واقع العرض والطلب بين الدولار الأمريكي
والليرة اللبنانية لم يعد متوازنا، في ظل اختلالٍ فاضح، مصحوب بعجزٍ عن إيجاد
العملة الخضراء المختفية إلا من يدي الصرافين الشرعيين وبعض المتطفلين المضاربين،
ما رفع الأسعار إلى أرقام جنونية قاتلة بدت أنها ستقارب سبعة آلاف ليرة للدولار
الواحد، ما حدا ببعض الاقتصاديين، وقد يكونوا على حق، إلى التنبؤ بأن أسعار
الدولار إذا تابعنا في السياسات الاقتصادية القائمة ستبلغ أرقاما قياسية جديدة؛
نتحفظ عن ذكرها حرصا على مصداقيتنا وحبنا أن لا نصل إلى تلك الأرقام الكارثية التي
ستقضي على حياة العائلات (المستورة) اللبنانية اقتصاديا وماليا، بعد أن أصبحت
معرضة يوميا إلى كؤوس السم القادمة بالحديث يوما عن "الكابيتال كونترول"
ويوما عن "الهير-كات" و"والبايل إن"، وسواها من المصطلحات
التي تقض مضاجع اللبنانيين البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة حتى في الوصول إلى
ودائعهم بالدولار والتي لا يستطيعون الوصول إليها، في أسلوب لصوصي مبدع بين أركان
القطاع المصرفي والمالي.
كثير من الخبراء يعزون ذلك ليس فقط إلى العرض
والطلب، إنما إلى فقدان الثقة بالعملة الوطنية وانهيار الثقة بالقيمين على
القطاعات المالية والنقدية، ومنهم من يعزو المشكلة إلى التعاميم الصادرة عن حاكمية
مصرف لبنان المركزي والاجتماعات المالية المتنقلة بين السراي الحكومي والقصر
الجمهوري، دون رؤية موحدة بين المعنيين بها تخطيطا وتنفيذا. من هنا يبدو أن
القطاعات المصرفية والمالية والصناعية في مكان، والحكومة في مكان آخر، وحاكم مصرف
لبنان الممتعض في مكان مختلف!!
إن السؤال الحاضر في الذهن الآن: من يريد
إذلال اللبنانيين في لقمة عيشهم، والتي باتت خارج المتناول في ظل الارتفاع الجنوني
لأسعار السلع، والتي في غالبها مستوردة ومقومة بالدولار الأمريكي؟
ما المطلوب وراء حفلة الجنون في تفلت سعر
العملة الوطنية إلى أربعة أسعار؟ فسعر الدولة الثابت عند 1515 ليرة للدولار،
والسعر المثبت لدى الصرافين صوريا عند عتبة 3940 ليرة للدولار الواحد، وسعر المنصة
الدولارية للتحويلات الخارجية 3200 ليرة للدولار الواحد في عملية هير-كات مقنع،
والسعر الرابع المتداول على البرامج الإلكترونية وما يتداوله الناس، والذي قارب
7000 ليرة للدولار، وتلك طامة كبرى ليس من السهل أن نستسيغها وتتقبلها عقولنا.
يردد الكثيرون أن المطلوب إسقاط الحكومة
الديابية في الشارع نتيجة التضخم الحاصل وانفلات الأسعار من عقالها، مصحوبا بصرخات
الناس الذين هم على أهبة الاستعداد للدفاع عن رغيف خبزهم وودائعهم المصرفية
العالقة بين فكي المصارف والدولة ومصرفها المركزي، وبقاء كيانهم الذي لم يعد أحد
يراه، في تسلط قبيح على الناس، ولكن حذار ألف مرة لأن في هذا الخيار العديد من
المحاذير التي تبدأ مع كورونا القاتل في الشوارع ولا تنتهي مع أرقام صادمة عن
انهيار البلاد، في ظل الحديث عن أرقام بطالة غير مسبوقة وتضخم هائل وميزان مدفوعات
عاجز وتبخر الودائع، ناهيك عن المناكدات والمماحكات السياسية التي لا تكاد تهدأ
حتى تعود.
إن سقوط الحكومة ليست نهاية المشكلة، إنما
المشكلة في ما هو بعد ذلك. فمن يملك زمام المبادرة لجمع اللبنانيين ورضى الغربيين
وإقناع المنتفضين؟ وهي غاية لا تدرك بالسهولة المتداولة؟
إن ما نراه هو مسار انهياري حاد قد يقضي على
لبنان بكامله، في ظل عجز السلطة بكل أركانها، فكيف إذا ترافقت كل هذه الظروف
القاسية مع قانون قيصر الأمريكي على سوريا، بأبعاده الاقتصادية والسياسية على
لبنان، والتي ستكون أولى مطالب صندوق النقد الدولي على الدولة اللبنانية؟
إن ما يزيد القلق من وصول لبنان إلى حافة
الهاوية خلال الشهور القادمة ما أوصت به لجنة الدراسات في الحزب الجمهوري
الأمريكي، بصدور تشريع بفرض عقوبات يُلاحق داعمي "حزب الله" ممن هم خارج
الحزب، كرئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس "التيار الوطني الحر" النائب
جبران باسيل. وكذلك أوصت، بفرض عقوبات على كل وزراء حزب الله في الحكومة، إضافة
إلى من يقدّمون أنفسهم على أنهم مستقلون وهم داعمون للحزب، مثل النائب جميل السيد،
الوزير السابق جميل جبق.
أما أخطر ما ورد وتضمنه الاقتراح، وفق ما أورد
موقع "سكاي نيوز"، فهو الامتناع عن إرسال أموال دافعي الضرائب
الأمريكيين إلى لبنان عبر صندوق النقد الدولي، بما يهدّد المفاوضات الجارية بين
لبنان والصندوق. والأخطر مطلقا هو ما شمله الاقتراح أيضا بوقف إرسال المساعدات إلى
الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية، وربما للمرة الأولى.
إن الواقع يقول إن لبنان في عين العاصفة التي
تتطلب تغيير الأداء والأشخاص والنمط الحكومي السائد، حيث لم يعد ترف الوقت ممكنا؛
فإما إنقاذ الوطن الجريح بما يعيد الثقة مع الداخل الذي افترش الشوارع كافرا
بالسياسيين والفاسدين، كذلك لا بد من استعادة الثقة مع الخارج عبر الإصلاحات مهما
بلغت مرارتها، وإما الذهاب نحو المجهول الأسود والقاتم للبنان وقاطنيه في ظل أزمة
بلا أفق، ودولار بلا سقوف، وفقر بلا نهاية، وجوع بلا تمييز.