هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع مطلع العام الجاري، تحدّثت بعض المعلومات عن وجود خلاف في وجهات النظر بين مصر والإمارات حول حفتر. خلاصة هذا الخلاف أنّ مصر لم تكن مؤيدة تماماً للخيار العسكري الذي يقوده حفتر ضد طرابلس لاسيما بعد الفشل في إخضاعها المرّة تلو الأخرى بالرغم من الدعم الهائل واللامحدود المقدّم له سياسياً ومالياً وعسكرياً. ووفقاً لهذا التصور فقد كانت لدى القاهرة مخاوف من أن يؤدي مثل هذا الأمر إلى تزايد التدخلات الدولية وإلى فوضى وفرض عقوبات تقوّض في نهاية المطاف من المصلحة المصرية في ليبيا.
في المقابل، كانت الإمارات ترى أنّ الحسم العسكري سانح الآن وأنّه إذا ما وصل حفتر إلى السلطة عبر القوّة، فإنّ كل المصالح المصرية في ليبيا ستكون مضمونة حكماً. أمّا مسألة العقوبات والغضب الدولية، فهي ستتكفّل بها عبر ضمان انخراطٍ أكبر لروسيا في الملف واستمالة الموقف الأوروبي من خلال فرنسا.
وما هي إلاّ أربعة أشهر على هذا الخلاف، حتى انتهت مغامرات حفتر الانقلابية ضد طرابلس بانهيار واسع وسريع لمليشياته أمام قوات حكومة الوفاق الوطني، الأمر الذي أدّى إلى فقدانه كل المناطق الاستراتيجية التي كان يسيطر عليها غرب البلاد بالإضافة إلى تدمير هائل لمعداته العسكرية واغتنام أطنان من الأسلحة التي تركتها مليشياته خلفها عند الانسحاب.
سارعت الأطراف الداعمة لحفتر حينها وعلى رأسها مصر إلى إعلان مبادرة لوقف إطلاق النار واستئناف العملية السياسية. القاهرة لم تتقدّم بأي مبادرات عندما كان حفتر يسيطر على المزيد من الأراضي وقاب قوسين أو أدني من الاستيلاء على السلطة بالقوّة. لذلك، من الواضح من حيث التوقيت على الأقل أنّ المبادرة جاءت لإيقاف انهيار ما تبقى من قوات حفتر في الشرق هذه المرّة، لاسيما بعد أن دبّت الخلافات في صفوف الموالين إثر تنصيبه نفسه حاكماً على ليبيا.
وبالرغم من اتفاق الأطراف الداعمة لحفتر على المبادرة المصرية، إلاّ أنّها ولدت ميتة لعدّة أسباب لعل أبرزها أنّ المبادرة تفرض على الطرف الآخر الذي من المفترض أن يكون شريكاً في الحوار شروطاً تتناسب مع من هو منتصر عادةً وليس مع من هو مهزوم كحفتر.
المبادرة تطالب بحل قوات حكومة الوفاق الوطني وتسليم سلاحها، كما أنّها تُبقي على ميليشيات حفتر بل وحتى على حفتر نفسه قيّماً على ما يسمى الجيش الوطني الليبي، وتطالب بخروج تركيا. لا يمكن لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً أن تقبل بمثل هذه الشروط في الظروف العادية، فكيف بها تقبل بذلك بعد إلحاق الهزيمة بحفتر في غرب ليبيا.
لقد وضعت الإمارات مصر في موقف أضعف اليوم مما كانت عليه في بداية العام، اذ كان باستطاعة القاهرة حينها التضحية بحفتر أو على الأقل التفاوض من موقع متكافئ للتوصل إلى تسوية حقيقية بين الأطراف الليبية يرضى بها الشعب الليبي وتضمن المصالح المصرية في ليبيا. لكن إصرار أبو ظبي على الانقلاب العسكري أدى الى تقوية دور روسيا وتركيا وإضعاف الدور المصري. ومع انهيار قوات حفتر في الغرب تكون مصر قد خسرت ورقة تفاوضية قوية فيما لو كانت قد قررت أخذ زمام المبادرة في حينه.
المأزق المصري اليوم يتمثّل في كيفية الحفاظ على ماء الوجه، فالتضحية بحفتر سيكون إقراراً متأخراً بفشل المراهنة عليه طويلاً، أمّا التمسّك به بضغوط إماراتية فسيشكّل عامل استنزاف مستمر لرصيد القاهرة في القضية.
الإماراتيون يريدون من مصر أن تخوض صراعاً أيديولوجياً مع الجانب التركي بعيداً عن المصالح. ولهذا السبب بالتحديد، فهم يراهنون على دفع الجيش المصري إلى العمق الليبي.
وبموازاة ذلك، تجري اليوم محاولة جر مصر إلى صدام مع تركيا سواءً في ليبيا أو في شرق البحر المتوسط، علماً بأنّ مصالح القاهرة متناغمة إلى حد بعيد مع مصالح أنقرة في المنطقتين، أو على الأقل هكذا يفترض المنطق. استقرار ليبيا سياسياً وأمنياً فيه مصلحة مشتركة مصرية ـ تركية لاسيما من الناحية الاقتصادية. أمّا الاتفاق البحري التركي ـ الليبي، فهو يمنح مصر فيما لو فضّلت التوافق مع تركيا بدلاً من اليونان مساحة بحرية شاسعة تقدّر بآلاف الكيلومترات البحرية المرّبعة، لكنّ القاهرة ستخسر هذه المساحة لصالح أثينا التي تعتبرها ملكاً لها في حال فضّلت القاهرة التوافق مع اليونان.
إذن، فالمصالح المصريّة بينّة، لكن هل لدى النظام المصري حسابات أخرى غير مرتبطة بمصلحة مصر الدولة أو الشعب؟ يشكك البعض في مثل هذا الطرح، لكن آخرين يشيرون إلى أنّ للنظام المصري سوابق بالتنازل عن حقوق الدولة المصرية والشعب المصري لمنفعة تتعلق بالنظام الحاكم والمؤسسة العسكرية.
من يؤيّد مثل هذا الطرح يذهب إلى إعطاء أمثلة سابقة كاتفاقية تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل عام ٢٠٠٥، والتي كان النظام المصري يبيع بموجبها الغاز لإسرائيل بأسعار تصل في كثير من الأحيان الى نصف سعر التكلفة الأساسي! من النماذج الحديثة كذلك في عهد السيسي تنازل النظام عن جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر للمملكة العربية السعودية.
علاوةً على ذلك، هناك من يشير إلى أن النظام المصري قد تنازل أيضًا عن حقوق مصرية لإسرائيل في غاز شرق المتوسط ومنح مساحة بحرية لقبرص. هذه التنازلات تبعها موقف ضعيف في مواجهة المخاطر المستقبلية لسد النهضة الإثيوبي على مياه النيل التي توفر ٩٠% من احتياجات مصر من المياه.
لماذا قد يفعل النظام المصري ذلك؟
التفسير الأكثر رجاحة حالياً هو أنّ النظام المصري يدين بحقيقة وجوده في السلطة إلى الإمارات أوّلاً. فضلاً عن ذلك، فانّ حجم الأموال الهائلة التي ضخّتها الإمارات والسعودية في المؤسسة العسكرية المصرية الحاكمة لمصر تجعل من أبو ظبي حاكماً بالشراكة إن لم يكن بالوكالة.
ولهذا، فانّ الضغوط الإماراتية هي التي تحول في كثير من الأحيان بين السلطة المصرية وقرار منطقي لحماية حقوق ومصالح مصر الإقليمية. الإماراتيون يريدون من مصر أن تخوض صراعاً أيديولوجياً مع الجانب التركي بعيداً عن المصالح. ولهذا السبب بالتحديد، فهم يراهنون على دفع الجيش المصري إلى العمق الليبي.
وبغض النظر عمّا إذا كان ممكناً أم لا، وما إذا كانت حالة الجيش المصري تسمح له بمثل هذا الأمر أم لا، إلا أنّ مجرد التلميح إلى هذا الأمر هدفه إغراق مصر في الوحل. وفي هذا الشأن، تابع الجميع تغريدة الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبدالله الذي يمثّل شريحة معروفة هناك والذي يريد من الجيش المصري أن يردع تركيا في ليبيا على حدّ قوله، وكان يمنّي النفس سابقاً بتدخّل عسكري مصري أيضاً لدخول طرابلس إذا فشل الانقلابي حفتر بالسيطرة عليها.
هل سيكسر النظام المصري هذه التبعيّة المفترضة هذه المرّة؟