هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أحدهما يصنف كباحث وصحفي ومفكر، والآخر كأديب ومعاصر وراوٍ لتفاصيل سنوات الجمر والرماد في تاريخ فلسطين، خصوصا فترة ما قبل النكبة.
الأول هو الكاتب والباحث العربي، وصاحب فكرة مشروع "الموسوعة الفلسطينية" أنيس الصايغ، الذي ولد عام 1931 في طبريا لأب كان قسيسا إنجيليا هاجر إلى فلسطين من سوريا، نزح وعائلته إثر النكبة إلى صيدا في لبنان، حيث أنهى الثانوية في مدرسة الفنون الإنجيلية فيها. ثم درس العلوم السياسية في "الجامعة الأمريكية" في بيروت عام 1953، وكتب بعد تخرجه لصحيفة "الحياة" و"الأسبوع العربي"، ونشر مؤلفه الأول "لبنان الطائفي".
التحق بجامعة "كامبريدج" عام 1959 لإكمال دراسته، فحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية والتاريخ العربي، وعين في الجامعة أستاذا في دائرة الأبحاث الشرقية.
وحسب تقرير مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تأثر أنيس صايغ في فترة مبكرة من حياته، بأفكار "الحزب السوري القومي الاجتماعي" من دون أن ينتسب إليه رسميا، ثم صار يتبنى منذ أواسط الخمسينيات، الفكر القومي العربي.
عاد إلى بيروت عام 1964 وعمل مديرا لتحرير "القاموس الإنجليزي ـ العربي"، الذي مولته "مؤسسة فرانكلين" حتى عام 1966 حين استقال من منصبه؛ احتجاجا على اعتراض "فرانكلين" على مضمون ندوة ألقاها في "النادي الثقافي العربي"، في العام نفسه التقى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري.
وعرض على الشقيري فكرة إنشاء موسوعة فلسطينية، وانتهى اللقاء بتعيينه رئيسا لـ"مركز الأبحاث الفلسطيني" التابع لمنظمة التحرير، خلفا لأخيه فايز صايغ الذي أسس المركز عام 1965.
وبناء على لقائه بالشقيري، فقد أصبح عام 1978 مستشارا لمشروع "موسوعة فلسطينية" وعضو مجلس إدارته، ثم أشرف على طباعة القسم الأول من "الموسوعة الفلسطينية"، الذي صدر في عام 1984 في أربعة مجلدات، وتسلم منذ 1988 رئاسة مجلس إدارة "الموسوعة".
اختار أن يبتعد عن النشاط السياسي في أثناء إشرافه على الموسوعة الفلسطينية، حتى لا يستغله خصومها فيطعنون في استقلاليتها وعلميتها، ولأجل ذلك رفض أيضا إجراء حوارات مع الصحافة لأكثر من عشر سنوات، لتلافي التعبير عن أي موقف شخصي في القضية الفلسطينية.
تعرض "مركز الأبحاث الفلسطيني" الذي أداره الصايغ لاعتداءات إسرائيلية متكررة، انتهت بسرقة أرشيف ومكتبة المركز في بيروت عام 1982.
في بداية السبعينيات، أرسلت الاستخبارات الإسرائيلية طردا ملغوما، أدى انفجاره إلى بتر بعض أصابعه وضعف حاستي السمع والبصر لديه، وبعد طول علاج استرد بعض بصره ونسبة من السمع بأذن واحدة، لكن طنين الأذن لازمه طول حياته.
روى في مذاكراته جانبا من هذا الحادث، فبعد تلقي الرسالة الملغومة وانفجارها بعشرين دقيقة، كانت الإذاعة الإسرائيلية تعلن مقتل الصايغ، الذي كان "يتولى تدريب الإرهابيين الفلسطينيين في أوروبا على القتال" في فلسطين، بحسب زعمها.
ويشير الصايغ إلى أن الاحتلال الإسرائيلي استهدف عددا من موظفي المركز وباحثيه، ونجح في قتل عشرة منهم وإصابة آخر.
وفيما بعد، أصبح الصايغ عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، ونائبا لرئيس المؤتمر الوطني الفلسطيني والناطق باسمه وعضو لجنته وممثله في لبنان، ومؤسس اللقاء الثقافي الفلسطيني في بيروت ومنسقه منذ 1992.
انتقد بقوة اتفاق أوسلو الذي عقد في أيلول (سبتمبر) 1993 وألف حوله كتابا حمل عنوان "13 أيلول"، وجه نقده ونقمته إلى الاتفاق وصانعيه والمروجين له، واعتبره "نذير شؤم على الكفاح الفلسطيني"، واصفا الاتفاق بـ "خطيئة كبيرة لا تغتفر". بحسب وصفه.
ألف أنيس الصايغ وترجم عدة مؤلفات مهمة من بينها: "لبنان الطائفي"، "الأسطول الحربي الأموي في البحر الأبيض المتوسط"، "جدار العار"، "سوريا في الأدب المصري القديم"، "الفكرة العربية في مصر"، "تطور المفهوم القومي عند العرب"، "من فيصل الأول إلى جمال عبد الناصر: في مفهوم الزعامة السياسية"، "الهاشميون والثورة العربية الكبرى"، "الهاشميون وقضية فلسطين"، "فلسطين والقومية العربية"، "ميزان القوى العسكري بين العرب وإسرائيل"، "بلدانية فلسطين المحتلة: 1948 ـ 1967"، "المستعمرات الإسرائيلية منذ 67"، "الجهل بالقضية الفلسطينية: دراسة في معلومات الجامعيين العرب عن القضية الفلسطينية"، "رجال الساسة الإسرائيليون، "13 أيلول. الخطأ والصواب"، "ملف الإرهاب الصهيوني"، "الوصايا العشر للحركة الصهيونية" و"نصف قرن من الأوهام".
أما الكتب التي ترجمها: "فن الصحافة"، "قمح الشتاء"، "مقالات في القضية الفلسطينية" و"المؤسسات والنظم الأمريكية".
شارك الصايغ في تحرير: "الموسوعة العربية الميسرة"، و"قاموس الكتاب المقدس"، و"دراسات فلسطينية" و"يوميات هرتزل"، و"من الفكر الصهيوني"، و"فلسطينيات"، و"الفكرة الصهيونية: النصوص الأساسية"، و"العمليات الفدائية خارج فلسطين المحتلة".
كما ترأس تحرير: "مجلة العلية"، "سلسلة اليوميات الفلسطينية" و"مجلة شؤون فلسطينية".
توفي الصابغ عام 2009 في عمان عن عمر ناهز 78 سنة، ونقل جثمانه فيما بعد إلى بيروت ودفن فيها.
وضمن ما روي بعد رحيله، فقد زعم مستشار رئيس حكومة الاحتلال للشؤون العربية شموئيل طوليدانو المولود في طبرية ودرس مع الصايغ، ولاحقا التحق بالموساد، أنه بحث عن أنيس الصايغ خلال واحدة من زياراته لأوروبا، ودعاه للعودة معه إلى البلاد وترك نشاطه في منظمة التحرير الفلسطينية، فقال الصايغ له وفق شهادة طوليدانو في مقابلة صحفية: "لا أعود لطبريا إلا على متن دبابة". ورحل الصايغ دون أن يحقق حلمه بالعودة إلى طبريا حيث بقي قلبه معلقا.
على الجانب الآخر من الفكر والبحث والكفاح، يقف الخطيب المفوه الأديب والسياسي القومي العربي أكرم زعيتر، الذي تأثر أدبه بالجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابن حزم، ومحمد إسعاف النشاشيبي وشكيب أرسلان، وخليل السكاكيني الذي ارتبط به أكرم بوثاق شديد، وظل طوال عمره يباهي بتتلمذه على يد هذا الأديب الكبير، وبلغ من تأثره بعلمه وشخصه أن أطلق اسم "سري" على بكر أبنائه؛ تشبها بأستاذه السكاكيني "أبي سري".
أكرم زعيتر المولود عام 1909 في مدينة نابلس، كان والده الشيخ عمر زعيتر من كبار رجالات نابلس، وترأس بلديتها في أوائل القرن العشرين، أما شقيقه فهو شيخ المترجمين العرب عادل زعيتر.
أكمل أكرم زعيتر دراسته الثانوية في كلية النجاح، ثم انتسب إلى "الجامعة الأمريكية" في بيروت، والتحق بعدها بكلية الحقوق في القدس.
زاول زعيتر في بداية حياته مهنة التعليم، وعلى إثر ثورة عام 1929 في فلسطين وحملة المندوب البريطاني على الثوار العرب، استقال من مهنة التدريس ليتفرغ للعمل الوطني، فتولى رئاسة تحرير صحيفة "مرآة الشرق" في القدس، وبعد ثلاثة أشهر من عمله في الصحافة، قبض عليه وأودع السجن نتيجة لانخراطه في العمل الوطني، وحوكم بالإبعاد مدة سنة إلى نابلس، وهناك قاد المظاهرات الوطنية، خاصة يوم إعدام الشهداء الثلاثة: فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير في مدينة عكا.
لدى عودته إلى القدس مرة أخرى، تولى تحرير صحيفة "الحياة" التي قامت بدور مهم في تحريك أحداث عام 1931، ومرة أخرى جرى اعتقال زعيتر وأُغلقت الصحيفة، وأبعد من جديد إلى مدينة نابلس حيث تولى التدريس في "كلية النجاح"، وألف مع نخبة من رفاقه "جمعية العناية بالمساجين العرب". وفي تلك الفترة أسس مع عدد من رفاقه حزب "الاستقلال العربي" في فلسطين. وكان ينشر مقالاته الوطنية على صفحات صحيفتي "الدفاع" و"الجامعة الإسلامية" في يافا.
اشترك زعيتر في تأسيس "عصبة العمل القومي" في سوريا، كما ساهم بتأسيس "نادي المثنى" و"الجوال القومي" في العراق. وبعد عودته إلى فلسطين، شرع في عقد الاجتماعات الشعبية في جميع أنحاء فلسطين؛ داعيا للمقاومة ولمجابهة الانتداب البريطاني.
مع اندلاع ثورة عام 1936، اعتقل وأدخل سجن صرفند، ثم لجأ إلى دمشق ومنها اتجه إلى العراق، حيث عمل مفتشا في وزارة المعارف وأستاذا في دار المعلمين العراقية، إلى أن نشبت ثورة الكيلاني عام 1941 فشارك فيها، وحين أخفقت الثورة لجأ وصحبه إلى بادية الشام واختفوا مدة فيها، ثم لجأ إلى حلب ومنها إلى تركيا ليقضي ثلاثة أعوام لاجئا سياسيا في الأناضول.
بعد إعلان استقلال سوريا عام 1945 عاد إلى دمشق، وأصبح مقربا من رئيسها شكري القوتلي، كما مثل سوريا في كثير من النشاطات القومية، وكان مستشارا لوفدها لدى جامعة الدول العربية، وعضوا في لجنة فلسطين الدائمة في الجامعة العربية.
واصل زعيتر رئاسة الوفود العربية؛ ففي عام 1947 ترأس وفدا عربيا إلى أمريكا اللاتينية لشرح قضية فلسطين والدفاع عنها، واشترك في معظم المؤتمرات الوطنية والإسلامية المنعقدة في المشرق العربي، وتولى أمانة سر "الندوة الإسلامية" في القدس عام 1959، ومثل الأردن في الأمم المتحدة، وفي عام 1963 عين سفيرا للأردن لدى سوريا ، ثم سفيرا للأردن لدى إيران وأفغانستان، وفي عام 1966 عين وزيرا للخارجية الأردنية، وفي العام التالي أصبح عضوا في مجلس "الأعيان" الأردني، ثم وزيرا للبلاط الملكي الأردني.
عاد زعيتر إلى السلك الدبلوماسي عام 1971 سفيرا للأردن لدى لبنان واليونان حتى عام 1975، ثم عاد ثانية إلى عضوية مجلس "الأعيان" لأربع دورات متتالية.
في أثناء إقامة أكرم زعيتر في لبنان في الثمانينيات، القرن الماضي، ساهم في الحركة الثقافية، وكان رئيسا لـ"المركز الثقافي الإسلامي" لسنوات طويلة، كما شارك الشعب اللبناني معاناته في أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1982، فقد أصيب منزله كما احترقت مكتبته التي تضم رسائل من كبار الشعراء والأدباء العرب في الوطن والمهجر، مما سبب له حزنا عميقا، فغادر بيروت إلى عمان، حيث تولى رئاسة "اللجنة الملكية لشؤون القدس".
كما عين عضوا في "مجمع اللغة العربية الأردني"، وعضوا في "المجمع الملكي لبحوث الحضارات الإسلامية" في "مؤسسة آل البيت".
احتلت مؤلفات زعيتر مكانة مرموقة في المكتبة العربية، وقد انفرد بتسجيل أدق تفاصيل الكفاح الفلسطيني لحظة حدوثها بأمانة وموضوعية، ومن أهم المؤلفات: "تاريخنا" مع درويش المقدادي، "المطالعة العربية "مع محمد ناصر، "التاريخ للصفوف الابتدائية" مع علي الشريقي وصدقي حمدي، "التاريخ الحديث" مع مجيد خدوري، "رسالة في الاتحاد" مع ساطع الحصري وكامل مروة، "مهمة في قارة"، "القضية الفلسطينية" نقله موسى خوري إلى الإنكليزية، كما نقله أكبر هاشمي رفسنجاني إلى الفارسية، ونقله د. شمس إلى الأردية.
ومن مؤلفاته أيضا: "وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1918 ـ 1939"، "الحكم أمانة"، "بدوي الجبل وإخاء أربعين عاما"، "بواكير النضال، من مذكرات أكرم زعيتر 1909 ـ 1939"، "من أجل أمتي من مذكرات أكرم زعيتر 1939 ـ 1946"، "صفحات ثائرة من مقالات أكرم زعيتر"، "أوراق أكرم زعيتر، وثائق القضية الفلسطينية 1918 ـ 1940"، "يوميات الثورة الكبرى والإضراب العظيم 1936 ـ 1939"، "يوميات أكرم زعيتر: وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1935 ـ 1939".
توفي أكرم زعيتر بمنزله في عمان إثر إصابته بسكتة قلبية عام 1996، ووري الثرى في المقبرة الإسلامية في سحاب جنوب عمان، بعيدا عن مسقط رأسه نابلس.