قضايا وآراء

الإسلام والإنسان.. ولعبة التضاغط السياسي

هشام الحمامي
1300x600
1300x600

يمثل الدكتور سليم العوا (حفظه الله) قيمة كبيرة في الفكر والثقافة الإسلامية المعاصرة، سواء بحضوره في الحياة العامة أو بما أنتجه من فكر أعطاه كامل مصداقيته.

وهو يستحق هذه المكانة كل الاستحقاق ويشهد له الجميع بهذا الحق، ومثّل ترشحه لرئاسة الجمهورية في مصر 2012م مفاجأة كبيرة لكل من يعرفه، وأثار أسئلة كثيرة تراوحت بين الترحاب والحيرة.. وأذكر أنني كتبت في هذا الموضوع وقتها، وتمنيت أن لو احتفظ الدكتور العوا بمكانه الكبير في الحياة العامة، ومكانته الأكبر كمعلم من معلمي الفكر، متجاوزا وعابرا لقصة الانتخابات والترشيحات هذه. ثم كان أن جرت من تحت الجسور مياه كثيرة، وتغير وجه الأرض في مصر الكريمة، وتبدلت الدنيا والناس.. فكأنها وكأنهم أحلام.

تذكرت تلك السنوات بكل ما فيها وأنا أشاهد جلسة البرلمان التونسي التي عقدت في 3 حزيران/ يونيو لـ"محاسبة" المفكر الإسلامي الكبير وأحد أكبر وأهم العقول الفكرية العربية في العصر الحديث، "راشد الغنوشي"، وكيف كان التطاول عليه وعلى ما كل ما يمثله الرجل في حقيقة الأمر، بتاريخه وإنتاجه وحضوره الكبير في حياتنا المعاصرة.

* * *

ليست لدى مشكلة مع المشاركة المباشرة في العمل السياسي، لكن لدى مشكلة حقيقية مع أمرين هامين يتعلقان بهذه المشاركة: الأول المشاركة باسم الدين، فالمسألة كلها اجتهاد مفتوح على الاختلاف والاتفاق، والثاني المشاركة المباشرة بالمفكرين والعلماء (ترشح الدكتور العوا 2012م وترشح الشيخ مورو 2019م).. ليست فقط التجربة هي التي أكدت مجانبة ذلك للصواب، كون التجربة التاريخية للإصلاحيين لها رصيد معتبر في زوايا الاعتبار، لكن وهو الأهم أن هناك بالفعل تجربة موفقة ومتوازنة ومتقدمة في المغرب.. الفكر في الفكر والسياسة في السياسة.

وليس ذلك لحرمان السياسة من الفكر، الذي هو ضرورة من ضروراتها وأحوج ما تكون إليه، وها هو الدكتور سعد الدين العثماني رئيس الوزراء المغربي، هو في الأصل أحد كبار المثقفين المغاربة، وهو الطبيب النفسي والمفكر العميق والسياسي الراسخ الرأس والقدم، وثقافته الشرعية لا تقل عن ثقافته التاريخية والفكرية، لكن الرجل اختار العمل السياسي المباشر من بدايات نشاطه في الحياة العامة بالمغرب (والتي تطورت ونضجت من الممارسة والتجربة والخطأ). فصورة الدكتور سعد الدين "السياسي" أكثر بروزا ووضوحا من الدكتور سعد الدين "المفكر" والعالم.. والعكس صحيح تماما مع الأستاذ الحمداوي أو الأستاذ الريسوني مثلا.

وهو ما لم تخطئه أي عين فاحصة عند ترشح الدكتور العوا للرئاسة.. كيف؟ ولماذا؟ أو عند وجود الشيخ راشد رئيسا للبرلمان.. كيف؟ ولماذا؟.. الاثنان عندي شخصيا وعند الأمة كلها أكبر كثيرا من طرق دروب السياسة الوعرة ودهاليزها الملتوية ومناورات الكواليس وطموحات الرجال بكل ما فيها هرج ومرج.. ليس هذا فقط، بل والمشاركة المباشرة في السلطة والحكم مهما ادعى من ادعى غير ذلك؛ تقلل كثيرا من رصيد العالم والمفكر. وتجربة فضيلة الشيخ الشعراوي وزيرا للأوقاف في السبعينيات بمصر ما زالت ماثلة في الأذهان، والشيخ راشد نفسه جملة واصفة لواقع الحال السياسي الآن في بلدان الربيع العربي، وهو أن الشعوب تحب رؤية الإسلاميين في المعارضة أكثر من رؤيتهم في السلطة.

تحكي لنا الروايات أنه في عهد المأمون الخليفة العباسي (786- 833م) تشكلت حوله جماعة من المفكرين استحسن عقولهم وأداءهم، فعرض على كبيرهم الوزارة (ثمامة بن أشرس) فرفض رفضا قاطعا، وفضل أن يكون هو ومجموعته خارج الحكم، وشرح له فكرته فاستحسنها المأمون، وهي الفكرة التي تقوم على تكوين طليعة مثقفة تراقب أداء أجهزة الدولة ولا تنغمس مباشرة في تعقيدات ومشاكل الحكم، فكرة ذهبيهة، تكاد تمثل حلا رائعا لموضوع "الدعوي والسياسي" الذي شغل ولا يزال أذهان كثيرين من أبناء الأمة المخلصين.

الدكتور مصطفى محمود (1921 -2009م) له في هذه الظاهرة الهامة رأي جيد، يقول: التيار السياسي الإسلامي دوره الأساسي "صناعة رأي عام إسلامي" قوي ومؤثر وليس "صناعة انقلابات"، وهدفه أن يصبح الرأي العام الإسلامي من القوة بحيث يصبح ملزما للحاكم وموجها له في جميع قراراته، فلا يوجد حاكم إلا ويحسب للرأي العام ألف حساب. ويستطرد قائلا: خطأ الحركات الإسلامية في الماضي أنها حاولت ضرب الحاكم وقلب نظامه فدخلوا السجون (تجربة الصدام الشهيرة بين الإخوان وحركة يوليو عام 1954م).

وله مقولة في هذا السياق أيضا جديرة بالفهم فيقول لمن يتهم الإسلام بعدم احتوائه على نظرية في الحكم إن ذلك من كمال الإسلام وميزته، فلو نص القرآن على نظرية للحكم لسجنتنا هذه النظرية كما سجنت الشيوعيين ماركسيتهم فماتوا بموتها.. كل الأيديولوجيات التي حاولت المصادرة على تفكير الناس وفرضت عليهم نهجاً مسبقا ثبت فشلها..

لكن المسألة ليست بهذه البساطة الأمينة التي حاول بها الدكتور مصطفى أن يقدم مقاربة للإسلام لدى بعض المثقفين.. فالدكتور عبد الرازق السنهوري (1895-1971م) والدكتور حامد ربيع (1924-1989م) وكثير من فقهاء القانون والسياسة لهم دراسات وكتابات أكثر دقة من هذا الكلام العام الذي قاله الدكتور مصطفى، ولا ننسى أنه كان في الأصل صحفيا مخضرما (مدرسة صباح الخير وروزا اليوسف) ويجيد مخاطبة الناس العاديين.

سيكون علينا هنا أن نتذكر ابن خلدون (1332-1406م) المفكر الذي زاد عن السياسة وضاقت عنه السياسة، والذي تمرد على ذاته ليستولد لها حجما كبيرا يليق به كما كان يرى نفسه، لكن الزمن لم يكن مواتيا والريح لم تكن موافقة، ولولا كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" ما عرفناه، ولا وضعناه في مكانته التي تبوأها وبوأه إياها العالم كله كأحد أعظم المفكرين في تاريخ البشرية كله.

ويبقى السؤال وتبقى العبرة لمن يعتبر: لماذا لا يرضى المفكر والعالم بمكانة الضمير الناصح والعلامة الهادية؟ لماذا ينجذب إلى السياسة والسلطة؟ ثم إن عبرة التاريخ التي تتجلى كل يوم تؤكد لنا على أن أهم ركن في النهوض بالمجتمعات والشعوب، هو "الإنسان" أشرف المخلوقات الذي جعل الله نطقه بيان.. وسمعه وعي.. وبصره تمييز.. فجعله الخليفة المسؤول بين جميع الخلق يدين بعقله فيما رأي.. ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب.

وكلما ابتعدنا به عن تضاغطات السياسة كلما وصلنا به إلى هذه المكانة.

 

twitter.com/helhamamy

التعليقات (0)