في الرابع والعشرين من سبتمبر سنة 1934 وُلِد
جون برانر، الروائي البريطاني سيئ الحظ، بل لعله يكون أحد أشد الروائيين نحسا. فهو واحد من الروائيين المعدودين الذين نجحوا في كتابة روايات تستشرف المستقبل بدقة. أعني بذلك أنه لم يتنبأ بتفاصيل صغيرة متناثرة، بل بأنماط مترابطة من مكونات حياتنا المعاصرة، مما لا يتحقق إلا بخيال ثاقب واطلاع واسع على تطور العلوم والتكنولوجيا في عصره.
أما سوء طالعه فلأنه لم يُكتشَف في عصره، ولم يُقدَّر. فقد كان معروفا بحدة الطبع، وفُسِّر ذلك بأكثر من تفسير، منها معالجته موضوعات متشائمة، مرتبطة بالمستقبل القاتم وازدحام البشر على سطح الكوكب، كما عرِف عنه قلقه الدائم من العجز عن توفير نفقات معيشته، وهو ما واجهه في أخريات حياته، بعد وفاة زوجته مارجري سوير، التي كانت هبة القدر له.
كانت مارجري تكبره بأربعة عشر عاما. وقد أحبتْه بإخلاص، ربما يشعرنا بنوع من الحب الأمومي لحبيبها الموهوب لكن الفوضوي صعب المراس أيضا. وقد عملت مارجري لزيادة دخل الأسرة، كما أشرفت على تنظيم أموره وتعاقداته مع الناشرين، وكان هذا يعالج نقطة ضعفه المهمة ككاتب مبدع لا يجيد التعامل مع العاملين في مجال النشر.
اعتبره الكُتّاب البريطانيون أمريكي الهوى والموضوعات. ربما نفهم ذلك أكثر إذا تأملنا اهتمامه الواضح بالتكنولوجيا والعلوم، التي كانت أمريكا، وما زالت، رائدتهما. في الثمانينيات من القرن الماضي، وبعد تاريخ حافل من الإبداع، رفض الناشرون أعماله، وكانت تلك الضربة القاصمة التي طالما خاف منها. وحتى يواجه أعباء الحياة اضطر إلى بيع منزله في لندن والسكن في مدينة أخرى. لم تكن مارجوري بجواره لتدبر له مخرجا من أزماته المالية.
من مظاهر سوء حظه أيضا أنه توفي عن واحد وستين عاما، وذلك سنة 1995 إثر أزمة قلبية مفاجئة، أثناء مؤتمر دولي عن الخيال العلمي، ولم يعش سنوات قليلة أخرى ليبصر تحقق كثير من نبوءاته، التي نسجها في رواياته خلال الستينيات، لعل ذلك كان يمنحه بعض السلوى والتكريم، لعله يصبح نجما في سماء شبكات التواصل الاجتماعي، التي تنبأ بها.
وقد كان برانر موفقا في تحقّق كثيرمن رؤاه المستقبلية، لكن ذلك لم يكن ضربة حظ، بل كان ثمرة لاجتهاده في البحث والاطلاع على أحدث الدوريات العلمية، كما أنه سافر إلى أمريكا سنة 1968، وهي سنة نشر روايته الأشهر "الوقوف في زنجبار"، حيث قضى شهورا في أهم الولايات الأمريكية. يؤكد ذلك حرصه على تحديث عالمه الروائي بأهم مستجدات العصر، التي كانت أمريكية بالطبع، مما حدا بزملائه من الروائيين البريطانيين باتهامه بـ"التأَمْرُك".
وحفلت روايته "الوقوف في زنجبار" بخيال مدهش ونبوءات صادقة. وفازت بجائزة "هوجو" لأفضل
رواية خيال علمي بالمؤتمر الدولي السابع والعشرين للخيال العلمي، الذي عُقِد سنة 1969.
عالجت الرواية أزمة التكدس السكاني في العالم، وتخيّلت بعض حلولها المستقبلية وإن لم تكن معدلات الزيادة السكانية وقتها تبشّر بأزمة خانقة، خاصة بعد مقتل عشرات الملايين في الحرب العالمية الثانية وحدها. وقد اختار برانر سنة 2010 لتكون مسرحا لأحداث روايته.
اتكأ برانر على مفارقة لطيفة، متخذا منها مدخلا للرواية. كانت ثمة مقولة شائعة في بدايات القرن العشرين بأن جزيرة "وايت" تكفي لاستيعاب سكان العالم كله إذا وقفوا فيها متراصين. وتبلغ مساحة الجزيرة 381 كيلو مترا مربعا. أما في الستينيات، زمن كتابة الرواية، فكان سكان العالم قد بلغوا 3.5 مليار نسمة، فأصبحوا يحتاجون إلى الوقوف في جزيرة أكبر، هي جزيرة "مان" التي تبلغ مساحتها 572 كيلو مترا مربعا.
لكن في سنة 2010، توقع برانر أن يصبح البشر 7 مليارات نسمة، لذلك سوف يحتاجون إلى الوقوف متراصين في جزيرة زنجبار، ذات الـ 1554 كيلو مترا مربعا. تلك صورة قوية لعالم مكدس بالبشر، تتناقص موارده بينما يتضاعف ساكنوه! من الطريف حقا أن تتحقق نبوءة برانر متأخرة قليلا، فقد بلغ البشر هذا العدد سنة 2011!
تقع أحداث الرواية في أمريكا. وتستعرض كثيرا من المؤامرات والصراعات الناجمة عن الزيادة السكانية الهائلة، وعواقبها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا؛ بدءا بسن قوانين التحكم في النسل، التي وصل بعضها إلى تحديد البشر ذوي الجينات الجيدة لمنحهم حق التناسل دون غيرهم، بهدف تحسين النسل البشري. وربما يبدو مهما أيضا أن نشير إلى اهتمام برانر بمسألة الجينات والتحكم بها عبر الهندسة الوراثية، وهو الموضوع الذي عالجناه في مقال سابق، حيث اتضح كيف يستطيع البشر الآن اختيار لون عيون أطفالهم عبر الهندسة الوراثية.
يبدو أن برانر كان مثقفا ممتازا وقارئا لأحدث منجزات العلم، كما كان كاتبا واسع الخيال، فاستطاع استخدام الخميرة القليلة التي وفرها العلم له، ليعالج رواية كاملة يتنبأ فيها بالكثير مما نراه اليوم. فقد عالج في الرواية أيضا موضوعات مثل التفاوت الاجتماعي وزيادة الهوة بين الأغنياء والفقراء، كما توقع اشتداد وطأة التطرف وزيادة وتيرة جرائم العنف والتعصب، وكذلك حوادث إطلاق النار الجماعي والصراعات الحزبية.
مزج برانر بين السرد المباشر والفقرات التي تؤسس لعالمه المتخيل وتشرح خلفياته، مستخدما تقنيات مثل تضفير الأغاني والنصوص الإعلانية والحوارات المباشرة في سرده الثري. كما ابتكر بنية مزدوجة لصراع سياسي ربما بدا غريبا وقتها، لكنه الآن حقيقي بدرجة كبيرة، فقد تقاطعت مؤامرتان سياسيتان لاستغلال دولتين فقيرتين متخيلتين، إحداهما إفريقية والأخرى آسيوية. يقود الصراع كمبيوتر هائل، بهدف السيطرة على الدولة الأفريقية، تحت زعم زيادة التنمية والقضاء على الفقر، ونحو ذلك من مزاعم الاستعمار المعروفة، بينما يتم التلاعب، من خلال الهندسة الوراثية، بجينات شعب دولة أخرى خيالية تقع في جنوب شرق آسيا.
كما نلاحظ ظهور شبكات تشبه كثيرا شبكات التواصل الاجتماعي الحالية، يمكن عبرها نشر الأخبار والتعليقات بشكل فوري، وهو من أغرب التنبؤات التي صدقت في عصرنا، فلم يكن شائعا وقتها أن يتصور أحد شبكات التواصل الاجتماعي الحديثة، كما لم تكن جزءا من خيال المبدعين.
مؤسفٌ حقا أن ترفض دور النشر مخطوطات برانر في الثمانينيات، وأن يموت الرجل، بعد معاناة الفقر، قبل أن يشهد تحقق خيالاته في عالمنا الحافل بالأعاجيب.