هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قال
ابن خلدون عنه "إنه إمام المدونين في علم الكيمياء، حتى إنهم يخصونها به
فيسمونها علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز"، وقال عنه أبو
بكر الرازي "إن جابرا من أعلام العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء"،
فيما قال عنه القفطي إنه كان متقدما في العلوم الطبيعية بارعا منها في صناعة
الكيمياء.
وقيل
فيه أيضا إن لجابر في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق (برتيلو)، وإن جابر بن حيان هو
أول من علم علم الكيمياء للعالم، فهو أبو الكيمياء (فرانسيس بيكون)، ويمكن إرجاع
تطور الكيمياء في أوروبا إلى جابر بن حيان بصورة مباشرة (ماكس مايرهوف).
أما
ابن تيمية، فذهب في اتجاه آخر حين كتب، "وأَما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة
عند الكيماوية فمجهول لا يعرف وليس له ذكر بين أهل العلم ولا بين أهلِ
الدينِ".
النشأة
ولد
جابر بن حيان سنة 101 هـ/ 721 م وتوفي 198 هـ/ 813 م، وقد اختلفت الروايات على
تحديد أصله وكذلك مكان مولده، فمن المؤرخين من قال إنه من مواليد الكوفة على
الفرات، ومنهم من قال إن أصله من مدينة حران من أعمال بلاد ما بين النهرين، ومنهم
من قال إن أصله يوناني أو إسباني، وهذا خطأ نجم عن خلط بينه وبين عالم فلكي عربي
اسمه جابر ولد في إشبيلية عاش في القرن الثاني عشر الميلادي.
غير
أن أكثر المصادر التاريخية تؤكد أن جابر بن حيان ولد في مدينة طوس من أعمال
خراسان.
قتل
والده على يد الأمويين في خراسان لأنه كان داعيا للعباسيين، فهربت عائلته إلى
اليمن، حيث نشأ جابر ودرس القرآن والعلوم الأخرى ومارس مهنة والده (العطارة).
قالت
بعض المصادر التاريخية إن جابر بن حيان تتلمذ على يد جعفر الصادق، وإنه كان من
كبار الشيعة حسب ابن النديم في كتابه "الفهرست"، لكن المصادر التاريخية
الشيعية لم تذكره على الإطلاق، ففي كتاب "الفهرست" للنجاشي لم يتم ذكر
جابر، كما أنه لم يذكر في كتابي "الفهرست، ورجال الكشي" للطوسي.
ويرى
الباحث الهندي جويا جهانبخش أنه ليس من المقبول عقليا أن يهمل كبار مشايخ وعلماء
الشيعة المعتدلين شخصا في مكانة جابر بن حيان، والأغلب من وجهة نظره هو أنه لا بد
أن يكون الشيعة الذين ذكر ابن النديم اهتمامهم بـ جابر، هم من المنتسبين إلى
التيارات الغالية من التشيع.
المنهج
العلمي
كان
جابر بن حيان أول من اعتمد المنهج العلمي التجريبي القائم على التجربة والملاحظة، واعتماد
المنهجين الاستدلالي والاستقرائي، وقد ذكر في ذلك:
ويجـب
أن تعلـم أنـا نذكر فـي هذه الكتب،
خواص
ما رأينـاه فقط دون مـا سمعنـاه أو
قيل
لنـا وقرأنـاه، بعـد أن امتحناه وجربناه،
فمـا
صـح أوردنـاه ومـا بطـل رفضنـاه، ومـا
استخـرجنـاه
نحـن أيضـا وقـايسنـاه علــى
هؤلاء
القوم.
وملاكُ
كمال هذه الصنعة العمل والتجرِبة،
فمن لـم يعمل ولـم يجرب لم يظفر بشيء
أبدا.
درس
جابر الفكر العلمي عند أرسطو وفرفريوس وجالينوس وإقليدس وبطليموس، وأرخميدس، واعترض
على رأي أرسطو القائل إن الفلزات نشأت في باطن الأرض من تفاعل الدخان والقوام
المائي، فقال جابر بن حيان إنها لا تفسر الظواهر والمشاهدات التي لاحظها في تجاربه
الكيميائية، وإن الفلزات لا تتكون بهذه الصورة، وإن عنصرين جديدين يتكونان في باطن
الأرض هما الزئبق والكبريت وباتحادهما تتكون الفلزات.
وكانت
الكيمياء قبله عبارة عن خرافة تقوم على فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن
نفيسة، وذلك لأن العلماء في الحضارات القديمة كانوا يعتقدون أن المعادن من نوعٍ واحد،
وأن تباينها نابع من الحرارة والبرودة، والجفاف والرطوبة الكامنة فيها، وهي أعراض
متغيرة ليست ثابتة، لذا يمكن تحويل هذه المعادن من بعضها البعض بواسطة مادة ثالثة،
هي الأكسير.
وتذكر
الباحثة زيفريد هونكة أن البحث عن حجر
الحكمة الذي يحول المعادن إلى الذهب، كان من أحلام البشرية القديمة، منذ رأى
الإنسان والدهشة تطل من عينيه، معجزة تحول المعادن بواسطة الانصهار.
اقرأ أيضا: فخر الدين الرازي.. تداخل الكلام مع الفلسفة
وكم
حاول المصريون والإغريق والفرس إخراج هذا الحلم إلى حيز الوجود، فلم يفلحوا.. إلا
أن هذه الشطحات في التفكير وهذا التلاعب بأشياء ما وراء الحس تحولت لدى العرب
التجريبيين إلى ممارسة عملية منظمة، وأصبح حلم تحويل المعادن وعزل المواد بعضها عن
بعض دعوة في صفوف المثقفين المسلمين إلى إجراء التجارب العديدة وتحليل المواد
المختلفة وتفريقها وتعريفها حتى وصلوا في مختبراتهم إلى شيء لم يعرفه أحد من قبل.
ويتساءل علي سامي النشار: إن
جوهر المسألة عند جابر بن حيان هي أنه يستحيل تحويل جوهر المعادن، فهل يتفق هذا مع
فكرة الماهية الثابتة عند أرسطو ؟
لقد
وضع ابن حيان كتاب "الحدود" لكنه كتبه كتمرين عقلي لا ككتاب تطبيقي.
تغيير
طبائع الأشياء يعني تغيير جوهرها، ولما كان من المستحيل إدراك جواهر الأشياء، فقد لجأ
جابر بن حيان إلى معرفة أوزانها النوعية، والعمل على تحويل هذه الكيفيات النوعية
إلى كميات، وهذا الأمر جعله يضع علم الميزان، وهو الاهتمام بالنواحي الكمية
للأشياء دون النواحي الكيفية، ومن خلال هذا العلم نستطيع معرفة الطبائع الأربعة في
الشيء المراد تحويله وتغييره.
وبذلك،
كان له السبق في استعمال الميزان والتدقيق في موازين المواد الكيمائية المستعملة.
اخترع
حمض الكبريتيك وسماه زيت الزاج وألف في علوم الموسيقى والكونيات والنحو والفلك
والهندسة والأحياء والتقنيات الكيميائية والمنطق والميتافيزيقا ودرس السحر وتم
ترجمة مؤلفاته إلى اللغة اللاتينية.
أدرك
أهمية الزنبق والنشادر، واستعمل ثاني أوكسيد المنغنيز في صنع الزجاج واخترع
القلويات وماء الذهب وماء الفضة وملح الشنادر والبوتاس وعمل في تكرير المعادن وتحضير الفولاذ واستعمال المواد
الكيميائية في دبغ الجلود وصبغ الأقمشة.
ودرس
ظاهرة الاحتراق من زاوية كيمائية وربطها بالكبريت والكلس وقام بالتمييز بين المواد
القابلة للاحتراق عن غيرها وصنع الحبر والطلاء والورق التي تساعد على كتابة
المخطوطات والرسائل وتحفظها من البلل وحاول إيجاد الوسائل التي تمنع الحديد من
الصدأ وقام بتحضير الفولاذ وكربونات الرصاص وحمض الأزوتيك.
بين
العلم والغنوص
إلى
جانب المنهج العلمي لجابر بن حيان، فإن ثمة باحثين ومفكرين تناولوا الجانب المظلم
في فكره، خصوصا جانب اللامعقول (الغنوص).
ويرى
الجابري أن الفكر الغنوصي العرفاني دخل إلى الثقافة الإسلامية أول الأمر من باب
العلوم الطبيعية، ويظهر ذلك بشكل واضح عند جابر بن حيان الذي يقول إن "في
الأشياء كلها وجودا للأشياء كلها.. ولكن على وجوه من الاستخراج، فإن النار كانت في
الحجر ولا تظهر، وهي له بالقوة، فإذا زند وأروى ظهرت".
ويورد
الجابري مثالا آخر على غنوصية ابن حيان المتعلقة بالنفس، حيث يرفض جابر رأي أرسطو في
اعتبار النفس كمالا لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة، ويرى بدلا من ذلك أنها جوهر
إلهي محي للأجسام.
أما
المثال الثالث على غنوصية ابن حيان، فهو تقسيمه للعلوم التي هي على نوعين: علم
الدين وعلم الدنيا، ويصنف علم الدين إلى علم شرعي فيه ظاهر وباطن، وعقلي هو علم
الحروف (العلم الطبيعي، العلم الروحاني) والمعاني (العلم الفلسفي، العلم الإلهي).
أما
علم الدنيا، فهو قسمان: علم الصنعة (الكيمياء وفروعها) وعلم الصنائع الأخرى
الخادمة لعلم الكيمياء.
ويتضح
من هذا التقسيم أنه يدمج الدين في العلم والعلم في الدين، فعلم الدين هو علم الشرع
وعلم الحروف (السحر) والفلسفة والتنجيم والعلوم الطبيعية والرياضية.. وهذه كلها
انعكاس للفكر الغنوصي.
ويذهب
جويا جهانبخش إلى تأكيد الجانب الغنوصي العرفاني في فكر جابر بن حيان، بقوله إنه
يعتبر أحد أبواب العلم عند الفكر الشيعي المتطرف، ووصف باب من الألقاب التي شاع
استعمالها منذ الأزمنة البعيدة إلى الفترات المتأخرة، من قبل الغلاة والجماعات
الباطنية المنحرفة عن الخط الشيعي المعتدل.
ولا
يكتفي جهانبخش بذلك، بل يؤكد أن الكيمياء عند جابر بن حيان ليست هي الكيمياء في
العالم القديم، إنها الكيمياء التي لا تهدف إلى تغيير المادة، بل تصبو إلى تغيير
الإنسان نفسه، وتسعى إلى تحصيل شيء شبيه بما سيعرف بعد ذلك بين الصوفيين المتأخرين
باسم الإنسان الكامل، وهو تقليد روحي يختبئ تحت غطاء من الكيمياء.
ويذهب
الباحث المغربي محمد نعيم إلى أن كيمياء جابر بن حيان قائمة على مبدأين أساسيين،
أحدهما مأخوذ من الفلسفة الرواقية والآخر صادر عن مذهب الطبيعيين الأوائل السابقين
على سقراط، وهذا يعني أن مبدأ عمل الكيمياء عند ابن حيان قائمة على مبدأ التجاذب
والتنافر الباطني.
ولذلك،
يحذر جابر بن حيان البعض من الانهماك في طلب صناعة الذهب والفضة، فهو مضيعة للمال
والجهد، ويطالبهم بالتوجه نحو الوجهة الصحيحة للكيمياء، وهي الكشف عن الروح في
المادة، وهذا يعني أن كيمياء جابر هي علم لاهوتي يختص به الأنبياء والأولياء فقط.
وفق
هذه الرؤى، فإن هدف الكيمياء عند جابر بن حيان هو الكشف عن القوانين التي خلق الله
بها العالم، والكشف عن حقيقة نفس العالم، حيث اعتقد بوحدة النفس، وأن هناك ترابطا
كليا بين كل مستويات الوجود المادية والروحية، وهذا الرأي هو نفسه رأي المتصوفة
والهرمسية، ولذلك وصفه ابن النديم بالمتصوف.
هل
فعلا هذا هو رأي جابر بن حيان؟ أم إن ثمة خلط بينه وبين كيميائيين آخرين، خصوصا أن
كثيرا من كتب الكيمياء نسبت إليه، وهي في الأصل ليست له، وفي هذا يقول بيير لوري إن
سلسلة التراث المنسوب إلى جابر يحتمل أن تكون من تأليف جماعة من الكيميائيين،
مارسوا نشاطهم لما يزيد على المئة عام.