زيارة متأخرة ولكن لافتة تلك التي
قام بها وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى رام الله نهاية تموز/ يوليو الماضي.. متأخرة لأن السلطة
الفلسطينية كانت وجهت له الدعوة أصلا منتصف حزيران/ يونيو الماضي لحضور لقاء ثلاثي مع وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، لإصدار موقف عربي مشترك وموحّد من خطة الضمّ الإسرائيلية لغور الأردن ومستوطنات الضفة الغربية، لكنه امتنع عن الحضور مع تقديم أعذار ومبررات سياسية، بينما بدت الزيارة الأخيرة لافتة لأنها تضمنت موقفا مصريا صريحا نسبيا، وإن ظل هادئا وحذرا من خطة الضمّ الإسرائيلية التي صمتت عنها القاهرة، أو بالأحرى تبنت موقفا خجولا منها حتى زيارة شكري لرام الله.
في مسببات رفض المشاركة باللقاء الثلاثي، أبلغ النظام
المصري السلطة رسميا أنه منشغل بملفات وأزمات أخرى ضاغطة لا تتيح له التفرغ أو الانخراط جديا في جهود مواجهة وإحباط خطة الضمّ، مع إعلان رفضه الهادئ لها. ترافق ذلك مع سيل من التعليقات والتحليلات في الصحافة الإسرائيلية لفهم خلفيات وأسباب الموقف المصري المنضبط من الصفقة (مجلة نظرة عليا 14 أيار/ مايو) والمتمثلة بعدم الرغبة في إغضاب واشنطن دونالد ترامب، راعية النظام ومصدر الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الأساسي له، كما لعدم إغضاب أو استفزاز تل أبيب التي تقدم مساعدات أمنية له في حربه المتعثرة (والكئيبة) ضد تنظيم داعش في سيناء، إضافة إلى تقديم خدمات سياسية وإعلامية جليلة لتغطيته في واشنطن، مع إشارة إلى ضعف النظام واستنزافه وفشله داخليا في مواجهة جائحة كورونا، وخارجيا في مواجهة أزمة سد النهضة مع إثيوبيا، وهزيمة حليفه خليفة حفتر واندحار مشروعه في ليبيا بشكل عام، مع اقتباس صحيفة تايمز أوف إسرائيل (30 حزيران/ يونيو) عن مصدر مصري أن القضية الفلسطينية لم تعد تمثل أولوية للنظام في السنوات الأخيرة.
هنا يبدو السؤال منطقيا عن أسباب تغير موقف القاهرة وإرسال سامح شكري إلى رام الله، وإعلان موقف صريح رافض ولو بهدوء وحذر لخطة الضمّ الإسرائيلية، كما دعم السلطة الفلسطينية في مواجهتها.
في الحقيقة يمكن الحديث عن عدة أسباب: أولها الاستخدام الكلاسيكي للقضية الفلسطينية من أجل التغطية على الأزمات الداخلية العميقة والمتجذرة، وتحقيق مكاسب ونجاحات وهمية خارجيا، وإعطاء الانطباع بأن النظام ما زال لاعبا فاعلا في القضية الفلسطينية التي لا تزال تستحوذ (حتى مع التراجع النسبي) على اهتمام معتبر، شعبيا ورسميا، عربيا ودوليا.
في هذا السياق بدا لافتا ذهاب سامح شكري إلى رام الله في نفس اليوم الذي وافق فيه برلمان النظام على التدخل العسكري في ليبيا، والدلالة واضحة جلية: سامح شكري في رام الله دفاعا عن الأمن القومي، والقضايا العربية، وهو نفسه الهدف المزعوم الذي يسعى إليه التدخل المحتمل في ليبيا.
إلى ذلك، شعر النظام المصري أن قطار مواجهة خطة الضمّ يمضي بدونه، مع إصرار وعناد الفلسطينيين في رفضها، وتحقيق نجاحات أدت (ضمن أسباب أخرى إسرائيلية وأمريكية) إلى تأجيل الخطة، وربما إزاحتها عن جدول الأعمال ولو على المدى المنظور. من هنا أراد النظام أن يكون شريكا وحاضرا ولو متأخرا في تلك النجاحات.
أعتقد أيضا أن نظام السيسي شعر بالغيرة من تسليط الضوء على الأردن نتيجة موقفه الحاسم الرافض للخطة، والتأييد الشعبي والإعلامي الواسع لعمان التي قادت عمليا مواجهة الخطة عربيا وحتى دوليا. من هنا أراد أيضا مشاركتها النجاح والاهتمام، ولكن بحذر ودون استفزاز أو رغبة في الانخراط الفعلي في المواجهة، ولعب الدور المركزي فيها، والذي سيبقى للأردن على أي حال
نتيجة تأثره مباشرة بها في ثوابته الثلاثة: رفض التهجير الفلسطيني إليه، ورفض الوطن البديل، كما المسّ بوصايته على المقدسات الإسلامية والمسيحية بمدينة القدس.
ما سبق يفسر ذهاب سامح شكري إلى عمان أولا، ثم سفره إلى رام الله من هناك، في رسالة واضحة مفادها أن مواقفه منسقة وليست متناقضة أو متنافسة معها، ما يعني أيضا أن الحضور المصري سيكون تحت السقف الأردني، وهذا نفسه يضع من جهة أخرى علامات حول ذلك الحضور، كما حول النظام وهيبته ونفوذه بشكل عام.
في السياق الأردني أيضا، تبدو القاهرة مقتنعة بأن عمان تشاطرها الرأي بضرورة عدم ذهاب السلطة بعيدا في مواجهة
صفقة القرن وخطة الضمّ، وعدم كسر الأواني، بما فيها حلّ السلطة نفسها أو السماح بانهيار الوضع الأمني وصولا إلى انفجاره في فلسطين وربما المنطقة. وكان واضحا تفاهم سامح شكري مع عمان على طرح بديل أو خيار آخر يتعلق بالعودة للتفاوض برعاية دولية ووفق المرجعيات المتوافق عليها بما فيها
صفقة القرن، وهو خيار أو بديل نظري على أي حال في ظل التطرف الإسرائيلي ونسف الصفقة الأمريكية كل المرجعيات العربية والدولية للتفاوض، تحديدا في ما يتعلق بالمبادرة العربية وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
ثمة سبب آخر جوهري جدّا ومركزي في تفكير القاهرة، ويتعلق بالحوارات المباشرة الأخيرة بين فتح وحماس دون وسيط، والتفاهم على التصدي معا لخطة الضمّ والانفتاح على آفاق
لإنهاء الانقسام، حيث فهم النظام أنه سيفقد مكانته ووساطته، وأن قطار المصالحة سيسير بدونه أيضا، وهذا ما أكده حديث الجنرال السيسي الدبلوماسي والمنافق عن هذا البعد، تحديدا حيث أشار إلى دعم الحوار الفتحاوي الحمساوي مع استعداد للمساعدة والوساطة بينهما، أثناء اتصاله مع الرئيس محمود عباس الذي سبق مباشرة قرار إرسال سامح شكري إلى رام الله.
لا بد من الانتباه إلى أن أزمات النظام الداخلية والخارجية المتفاقمة وتركيبته العسكرية ونظرته الأمنية للقضية الفلسطينية؛ تؤكد جميعها عدم امتلاكه القدرات الأخلاقية والسياسية اللازمة للوساطة والمساعدة على إنهاء الانقسام الداخلي بين حماس وفتح، ببساطة لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وهو ما ينطبق أيضا على موقفه من صفقة القرن الأمريكية كونه عرّابها الإقليمي الرئيسي، كما يقال في أروقة السلطة الفلسطينية وأحاديثها الداخلية، وعرّاب الصفقة لن يكون باستطاعته مواجهة أو المساعدة على التصدي لخطة الضمّ الإسرائيلية المنبثقة عنها.
عموما وقياسا إلى ما سبق، بدت زيارة وزير الخارجية المصري إلى رام الله دعائية ومن أجل العلاقات العامة ليس إلا، كما من أجل تهدئة مواقف السلطة الفلسطينية وكبح جماحها، والضغط عليها للعودة للتفاوض حتى مع وضع صفقة القرن سيئة الصيت على الطاولة. ونظام الجنرال السيسي لا يملك بالتأكيد الإرادة ولا القدرة لمساعدة الفلسطينيين على مواجهة الصفقة الأمريكية وخطة الضم الإسرائيلية المنبثقة عنها، في ظل ارتباطاته العلنية وغير الخفية، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، مع واشنطن وتل أبيب، واعتماده الكامل عليهما في مواجهة تآكل شرعيته وإخفاقاته ونكساته المتتالية، داخليا وخارجيا أيضا.