"سنواصل العمل من أجل منع
إسرائيل ضم المزيد من الأراضي"، بهذا العنوان العريض تُلخَّص جملةُ التصريحات الأوروبية التي جاءت بعكس ما تبتغيه دولة الاحتلال المتجهة الآن نحو توسيع رقعتها، وذلك من خلال الاتفاق الذي تم إبرامه بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزعيم حزب أزرق أبيض بيني غانتس، الذي يقضي بضم منطقة الأغوار و30 في المئة من مساحة الضفة الغربية لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ التي ما تزال حتى هذه اللحظة تستغل وجود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في سُدة الحكم، الذي يُعتبر من أكثر الرؤساء الأمريكيين دعما وقربا لدولة الاحتلال، ومستغلة أيضا انشغال الشرق الأوسط بالأزمات الدامية والثورات المضادة.
الموقف الأوروبي جاء مغايرا لما تقتضيه المصلحة الإسرائيلية، إذ أكد الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، أنّ الاتحاد الأوروبي أجمع بأعضائه الـ27 على أنه سوف يعمل لمنع ضم إسرائيل للمزيد من الأراضي، وبأنه سوف يفرض عقوبات اقتصادية على دولة الاحتلال لأول مرة في حال أقدمت الأخيرة على هذه الخطوة.
فهناك إجماع أوروبي على اعتماد حل الدولتين حسب قوله، ومن ثم فإنّ الرؤية الأوروبية تعطي الأولوية في الظرف الراهن إلى ضرورة الإسراع في إيجاد حل شامل للقضية
الفلسطينية ووقف الصراع. وهذا الموقف ليس بالجديد، ولا الأول من نوعه، فقد عبّرت العديد من الدول الأوروبية عن رفضها لكل محاولات تمرير
صفقة القرن التي جاء بها الرئيس الأمريكي، من بينها دول أوروبية غاية في الأهمية ضمن الاتحاد، مثل ألمانيا وفرنسا وبلجيكا ودول أخرى، بالإضافة إلى تضامن العديد من المؤسسات والأحزاب الأوروبية مع القضية الفلسطينية. وقد تمثل ذلك بمشاركة أكثر من مئة مؤسسة أوروبية في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، حيث وقف ممثلو هذه المؤسسات وأنصارهم أمام محكمة الجنايات الدولية في مدينة لاهاي الهولندية، ونادوا بملء أفواههم؛ أنّ الشعب الفلسطيني هو صاحب المظلمة التي يتعرض لها مرارا منذ نكبة فلسطين وحتى يومنا هذا.
فلماذا إذن كل هذا التململ الأوروبي من سياسة دولة الاحتلال؟! ولماذا لم تحذُ الدول الأوروبية حذو الولايات المتحدة في مناصرة الاحتلال الإسرائيلي، كما ناصرَ الشاعر الجاهلي دريد بن الصمّة قبيلة غَزِيّة التي ينتمي إليها حين قال:
وما أنا إلّا من غَزِيّةَ، إنْ غَوَتْ
غَويْتُ، وإنْ تَرشُدْ غزيّةُ أَرشُدِ
أسباب التململ الأوروبي من السياسة الإسرائيلية
السبب الأول يعود إلى تجاهل دولة الاحتلال لقرارات الشرعية الدولية، ونداءات المجتمع الدولي، وإصرارها على اتباع نهج الاستيطان والغلوّ في قمع الفلسطينيين. وكثيرا ما كان يتحول هذا الانزعاج الأوروبي، من علامات الغضب في التصريحات، إلى خطوات عملية، تثبت أنّ هناك استياء ما من الإسرائيليين بسبب سياساتهم آنفة الذكر. فالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي كان لها سجل حافل في تأكيد عمق العلاقات الألمانية الإسرائيلية، والأمن الإسرائيلي، هي ذاتها التي ألغت مطلع العام 2017 زيارتها إلى دولة الاحتلال بسبب استيائها من الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، رغم أن ألمانيا تعتبر أكبر مُصدِّر أوروبي لإسرائيل، في حين تعتبر "إسرائيل" ثالث مستورد للأسلحة الألمانية في العالم، وبالرغم من كل هذه المحاباة بين الجانبين، إلّا أنّ استطلاعا للرأي كشف عنه الناشر الألماني ميشائيل فولفزون، أثبت أنّ إسرائيل غير مُحَبّبة بين الألمان منذ توحيد شطري ألمانيا.
ولأن الاقتصاد هو العامود الفقري للدول، فقد دأبت عدة مؤسسات أوروبية تدعو إلى مقاطعة منتجات المستوطنات رغم معارضة بعض الدول الأوروبية، ووضع علامة فارقة على هذه المنتجات أمام المستهلك الأوروبي لِيُترك له الخيار بالمقاطعة أو الشراء، باعتبار أن هذه المستوطنات غير شرعية بحسب قرار محكمة الجنايات الدولية عام 2004، وهي تخرق البند 49 من اتفاقية جنيف التي تمنع على الدول توطين السكان في المناطق التي تحتلها، ومن ثم نستطيع أن نجزم بأنّ هناك انزعاجا أوروبيا واضحا من السياسات الإسرائيلية، وفي المقابل هناك انفتاح أوروبي على الحقوق والثوابت الفلسطينية.
السبب الآخر يتمثل في الحراك السياسي المشروع وفق الأنظمة الأوروبية، والتفاعل الجماهيري، الذي يقوم به فلسطينيو
أوروبا، الذين أصبحوا جزءا من هذا النسيج، ورقما صعبا في المعادلة الأوروبية. فهم الذين شكّلوا المؤسسات الفاعلة في أوروبا، وهم الذين ينظمون الوقفات الجماهيرية والفعاليات الشعبية في العواصم وكبرى المدن الأوروبية، بهدف الحصول على الدعم الشعبي، وهم الذين يحدّثون المارة عن جرائم دولة الاحتلال، وحقوق الشعب الفلسطيني حتى أصبحت قضيتهم حاضرة وبقوة في الوسط المدني الأوروبي، وهم الذين يلتقون على الدوام مع رؤساء الأحزاب، وأعضاء البرلمانات، والوزراء، والناشطين الأوروبيين، ويقدمون لهم الرواية الحقيقية الصحيحة، السليمة من العثرات التاريخية، التي يحاول أنصار اللوبي الإسرائيلي في أوروبا تزويرها دائما.
فلسطينيو أوروبا الذين سخر منهم المحلل الإسرائيلي إيدي كوهين بهدف التشويش على أعمالهم، هم ذاتهم الذين أقضّوا مضاجع الليكود، لدرجة أنه أصبح يتابع تحركاتهم خطوة بخطوة، ويحاول إلغاءها بشتى السبل، أو الإساءة لها في أدنى التقديرات، وإلصاق التهم بأشخاصها، بهدف النيل منها، فأفراد تابعون لحركة "حماس الإرهابية" يقومون بكذا ويفعلون كذا، كان عنوانا عريضا طالما تصدر الصحف الأوروبية بعد كل نشاط فلسطيني فاعل، يشارك فيه الناشطون الأوروبيون قبل الفلسطينيين، وتسعى وسائل الإعلام الأوروبية لتغطية تفاصيله وتقديمها إلى المتابع الأوروبي كي تأتيه الحقيقة على طبقٍ من ذهب، تلك الحقيقة التي مُنِعَ عنها لسنوات مديدة.
وربما يكون الهدف من هذه الحملات الإسرائيلية ضد فلسطينيّي أوروبا، التي لا طائلَ منها على الإطلاق، هو الخشية من تأسيس لوبي فلسطيني، يصبح في قادم الأيام منافسا شرسا للّوبي الإسرائيلي الذي يعاني الآن في أوروبا، بعد تصاعد الحملة المناصرة للقضية الفلسطينية في القارة الأوروبية على الصعد كافة.