هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
جنود مجهولون لمعظمنا.. يعملون بصمت، يبدعون، ويشكلون شخصيات فنية لغيرهم. موسيقيون من الطراز الرفيع اجتمعت فيهم الموهبة والخيال والفكر.. يضعون بصماتهم للآخر في أول الطريق ثم يغادرون الطريق نفسه تاركين لغيرهم وهم الاتساع وربما نكران طعم التذوق الأول.
البحتري يغرف من بحر وأبو تمام ينحت في صخر.. كانت هذه خلاصة تقييم المتنبي ووجهة نظره في هاتين التجربتين العظيمتين. وبذلك أضاء لنا هذا الشاعر زاوية كبرى في استقراء التجارب الفنية.
يغرف من بحر... يسير في طريق محروثة ويبني عليها..
ينحت في صخر.. يحرث طريقا جديدة. أمامه مهمتان ابتداع طريقة جديدة، ثم الإبداع فيها.
إذا طبقنا هذه النظرية على سلاسل متوالدة من المبدعين ماذا يمكن أن نلاحظ. دعونا نستنطق هذه النظرية على مجموعة منهم.
ولكن.. مهلا أيها القارئ العزيز سوف لن أدعي الحيادية... بين من يسير في طريق أشادها الكثير من قبل.. وبين من ينحت طريقا جديدة مجهولة المعالم وسيزداد انحيازي شدة لمن يشكل طرقا جديدة لغيره. فيفتح لهم أبوابا، هي أساس انطلاقهم في المستقبل.
إنها لمغامرة كبرى، ليس يقودها إلا رهافة الإحساس، وليس لها من زاد سوى الخيال الجامح. إن من ينحت في صخر، إضافة إلى إبداعه فإنه يعيد تشكيل مفهومنا الخاص نحو الفن ويساهم في إضافة حساسيات جديدة له.
من ينحت في صخر.. يجتمع فيه الخيال والفكر مجبولان بخلطة غريبة عجيبة تتصدى للعمل الإبداعي.. لذلك وفي الأغلب فإنه يكون حارقا وخارقا يستنفد صاحبه إما بالموت المبكر أو بالسكوت والعيا الإبداعي.. وتذكروا ما قاله الفيلسوف الكندي فيما رواه ابن رشيق في كتابه العمدة عندما تحدث عن أبي تمام. وقال بعد أن ارتجل بيتين من الشعر هما:
لا تنكروا ضربي له مَنْ دونه
مثلاً شرودًا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلاً مـن المِشكـاة والنبراس
قال الكندي.. هذا امرؤ لن يعمر طويلا لأنه ينحت المعاني من قلبه.
دعونا نتأمل في تجارب بعض من المبدعين.. من هذه الفئة، وما آلت إليه تجاربهم!
عبد الفتاح سكر.. مع فهد بلان وذياب مشهور
في استيعابه الذكي للصوت الفراتي القادم من (الجزيرة) كما يسميها أهل الشام، قدَّمَ الأستاذ عبد الفتاح سكر، المطربَ الشاب ذياب مشهور، في أوائل سبعينيات القرن المنصرم بأغنيتين هما (يا بوردين) وأغنية (عالمايا) هذا الشاب الذي كان يجول في ملاهي دمشق السبعينيات وليس معه من رصيد سوى بعض الأغاني التراثية الفراتية وأغنية (طولي يا ليلة) والتي وَلَفَّهَا من أغنية (ياليلة) للمطربة البغدادية عفيفة إسكندر أخذ منها جملها وجعلها ذات وقع فراتي أخف من الغناء العراقي وجعلها مستساغة للأذن الشامية أكثر.
ما ساهم في انتشار محدود، ما لبث أن تفجر وفاضت جمالياته في الوطن العربي كله عبر هذين اللحنين آنفي الذكر. بلحنين فقط. وبرؤية ثاقبة لعبد الفتاح سكر تشكلت الهوية الغنائية لذياب مشهور. بعد ذلك طور ذياب مشهور من أغانيه والتي ظلت تعتمد على تطوير الأغاني الفراتية لتكون أقرب للمستمع العربي. غير أن هذين اللحنين ظلا عماد شخصيته الفنية حتى اعتزاله سنة 1990.
أما فهد بلان القادم من جبل العرب فقد شكَّل له الأستاذ عبد الفتاح سكر شخصية مميزة تجمع بين جبل العرب وتراث حوران الذي خبره جيدا أثناء معاشه في عمان وتتلمذه على الموسيقي ومطرب الإذاعة الفلسطينية الأستاذ مصطفى المحتسب. فكانت أغانٍ مثل (واشرح لها) و (لاركب حدك يا الموتور) و (تحت التفاحة) و(يا بنات المكلا) و(جس الطبيب) و(يا سالمة) و (يا ساحر العينين) وغيرها ... هذه الأغاني طبعت بأذهاننا ملامح فهد بلان.
ورسمت شخصيته الغنائية وطبقت شهرته الأفاق، فصار هذا الصوت الرجولي الدافئ مثارا لخيال الملحنين من كل حدب وصوب. تشكلت لهم الطريق، وملامحها فكان الذكي منهم من لا يتجاوز هذه الملامح مثل الأستاذ فريد الأطرش الذي قدمه للجمهور المصري بأغنية (ما اقدرش على كده).. ودخل فهد بلان أم الدنيا ممثلا ومغنيا. واشتهرت خلافاته مع نبعه الاول عبد الفتاح سكر، الذي ظلت روحه ترفرف طويلا في كل ما غنى بلان بعد ذلك. وظلت رائحة ألحانه الفواحة تنداح في كل حفلاته وعبر الملحنين الذين تعاقبوا على ظلال مساحاته الصوتية الممتدة.
وما هي إلا من تطريز مبدع كبير اسمه عبد الفتاح سكر
نور الملاح.. مع ماجدة الرومي
ماجدة الرومي ... هي ابنة الأستاذ حليم الرومي الملحن المعروف لكن بداياتها لم تكن برعايته، بداياتها الحقيقية كانت بأغان مثل (عم يسألوني عليك الناس) وأغنية (خدني حبيبي) ثم أغنية (أنا عم بحلم)... هذه الألحان من إبداع فارسنا الثاني الأستاذ نور الملاح، تلك الأغان شكلت انطلاقتها الحقيقية. تعاقب ملحنون كبار على تجربة ماجدة الرومي منهم إيلي شويري وجمال سلامة وأخيرا كاظم الساهر.
وكانت تدخل في بعض ألبوماتها أغان من تراث أبيها. حاولت الفكاك من نور الملاح الذي انقطع التعاون معه. نجحت مرات وفشلت مرات أخرى لكن ظلت ألحان الملاح مطلوبة في كل الحفلات التي توديها السيدة ماجدة الرومي هذه الألحان ظلت الطفل ذو النظرة الحانية والتي تشكلت منه تجربتها التي طور منها مبدعون كبار فيما بعد
يحيى خليل مع محمد منير
وأما فارسنا الأخير فهو مطور موسيقي وملحن محلق جاء من الولايات المتحدة بعد غربة 15 سنة مضى فيها يعزف موسيقى الجاز والأندرغراوند. بدايات الثمانينيات صنع لمنير مجدا جارفا.
منير الذي بداخله طموح نشر الأغنية النوبية، وإزاحة مكان للهامش في ظل طغيان المتن عبر سنوات طويلة.. اخترق يحيى خليل المتن بكاسيت شبابيك أعاد خلق أغان من جديد (الليلة يا سمرا) و (اشكي لمين) و (الكون كله بيدور) فظهرت كأنها أصيلة بذاتها وعجن صوت منير مع مفردات موسيقى الاندرجراوند. فولد منير ولادة جديدة لا يمكن أن تتكرر.
واستمرت النجاحات مع فرقة الأستاذ يحيى خليل وعبر شريطين آخرين. ثم بعد هذا النجاح المذهل دبت الخلافات.. والتي وصلت لحد التراشق الإعلامي لإثبات أبوة هذا النجاح الذي جعل الناس آنذاك تتعاطى منير مثل خبزها اليومي.
حاول خليل تكرار التجربة مع مصطفى قمر لكن التجربة لم تكتمل فقد كانت رياح الأغنية الشبابية بقيادة حميد الشاعري، تهب هبوبا عاتية.
لكن ظلت تجربة شبابيك هي الأثيرة لكل من دخل بوابة منير وعنوانها العريض إعادة صياغة أغان سابقة لكن بنكهة وشخصية منير.. ودليلنا على ذلك قيام منير بتوزيع أغان تراثية في العديد من ألبوماته حتى بعد تجربة كاسيت شبابيك بسنوات طويلة.. مثل الأغنية الأردنية (يا طير يا طاير) وهي أغنية من ألحان الأستاذ جميل العاص وقام منير بإعادة توزيعها ضمن ألبوم (في عشق البنات) سنة 2000، وكعادته طبعا دون أن يشير إلى مبدعيها الحقيقيين.
هؤلاء المبدعون الثلاثة في تجاربهم مع الاصوات التي حملت ألحانهم ... وكلهم توقف لأسباب متعددة.. كانوا ينحتون في صخر مشكلين معالم جميلة لهذه الأصوات.
فهل توقف هذا النحت عند نقطة ما؟ وماذا لو استمروا في التعاون معهم! فإلى ماذا كانت ستؤول تلك التجارب؟ هل كان ذكاءً من المطربين التخلي عن مصادر النبع الأول أم أن العي والموت الإبداعي كان سببا في توقفهم عن العطاء في ذات الطريق.