كتب

عصر معاوية.. قراءة معاصرة في بواكير الخلاف الإسلامي (2من2)

هكذا صور عباس محمود العقاد الخلافة الأموية- (إنترنت)
هكذا صور عباس محمود العقاد الخلافة الأموية- (إنترنت)

الكتاب: "معاوية بن أبي سفيان"
المؤلف: عباس محمود العقاد
جهة النشر: دار نهضة مصر (عام 2018)

يعد كتاب "معاوية بن أبي سفيان" للكاتب المفكر الكبير عباس محمود العقاد (الذي يعاد طبعه كثيراً كبقية كتبه أو معظمها)، من أبرز كتب العقاد، بل ربما يكون أدق كتاب وأوفى مرجع عن شخصية هذا الحاكم، بالغة الأهمية في التاريخ العربي الإسلامي. ولذلك تمت طباعة الكتاب أكثر من مرة، كما تمت قراءته من زوايا مختلفة أضاءت جزءا من تاريخ السلطة في صدر الإسلام..

الكاتب والباحث المصري محمد بدر الدين يعيد قراءة كتاب العقاد عن عصر "معاوية بن أبي سفيان"، ويلقي الضوء على فترة تاريخية تأسيسية في التاريخ الإسلامي، ليس فقط لمفهوم السلطة وعلاقتها بالدين، وإنما لخلافات سياسية وفقهية لا تزال قائمة في العالم الإسلامي إلى يوم الناس هذا. 


موقف معاوية من الخليفة عثمان


ـ سابعاً: يلي الفصل السابق أحد أهم فصول الكتاب وأخطرها بعنوان "موقف معاوية من قضية عثمان".

ويبدأ العقاد سطور الفصل بالقول: "إن الأخبار المقدمة على غيرها، في حوادث العالم الإسلامي، التي أفضت إلى قيام الخلافة الأموية، إنما هي الأخبار التي لها مساس بموقف معاوية من عثمان، قبل مقتله، وبعد مقتله والمبايعة لعلي بالخلافة في الحجاز".

ثم يجمل العقاد، في الفقرة التالية، الساطعة القاطعة، ما سوف يثبته ويفصله، خلال ما سيلي من سطور فصله. وهذا نص الفقرة: "كل ما وصل إلينا من أخبار ذلك الموقف يدل على شيء واحد لا محل فيه للخلاف الطويل، بين الناظرين إليه من الوجهة التاريخية الخالصة، وهو عمل معاوية لنفسه في كل مطلب طلبه من عثمان، وكل نصيحة أسداها إليه، وكل مشورة أشار بها عليه، فليس في هذه المطالب والنصائح أو المشورات شيء قط تجرد من منفعة ينظر إليها معاوية في حاضره أو مصيره، وكل ما عدا ذلك فقد يكثر فيه الخلاف ويؤول فيه التأويل".

ـ ثامناً: ثم يؤكد العقاد، أنه وفق جميع "الروايات": "لم يتغير موقف معاوية، وهو موقف الرجل الذي لا يبالي، أن تنجم الفتنة حيث نجمت، وأن يبتلى به الخليفة..". مضيفاً: "وقد تفاقم الخطب ونظر الخليفة المحصور حوله يطلب الرأي من ذوي الرأي بين خاصته وخاصة المسلمين..".

 

"إن الناس عرفوا في زمان معاوية، فارقاً شاسعاً، بين ولي الأمر الذي يتخذ الحكم خدمة للرعية، وأمانة للخلق والخالق، وشريعة لمرضاة الناس بالحق والإنصاف... وبين الحكم الذي يحاط بالأبهة، ويجري (يجور) على سنة المساواة ويملي لصاحبه في البذخ والمتعة، ويجعله قدوة لمن يقتدون به في السرف والمغالاة بصغائر الحياة..".

 



فبماذا أشار عليه معاوية؟ في مواجهة (الأزمة أو الخطب أو الفتنة ـ أياً كان الوصف).. يقول الفصل بما نصه، وإنه لأمر حقاً مذهل مروع في ما يتبدى، كاشف دال في ما يفصح: "بقي معاوية فسأله عثمان، فأجاب كما جاء في "الإمامة والسياسة": (الرأي أن تأذن لي بضرب أعناق هؤلاء القوم، قال من؟ قال: علي وطلحة والزبير.. قال عثمان: سبحان الله! أقتل أصحاب رسول الله بلا حدث أحدثوه ولا ذنب ركبوه؟! قال معاوية: فإن لم تقتلهم فإنهم سيقتلونك.. قال عثمان: لا أكون أول من خلف رسول الله في أمته بإهراق الدماء..).

ثم قال له معاوية آراء أخرى، أشار على عثمان بها، وعليها جميعاً يعلق العقاد بوضوح تام.. قائلاً: "تلك جملة الآراء التي أشار بها معاوية على الخليفة، وما من رأي منها، إلا والنفع فيه ثابت لمعاوية، غير ثابت لعثمان، وربما كان في معظمها ما يضره ولا يجديه. فليس قتل علي وطلحة والزبير بالأمر الهين الذي يدفع الشر عن الخليفة، وليس هو بالخطة التي يختارها معاوية لنفسه لو كان في موضع عثمان..".

بل يصل العقاد إلى حد القول، أن معاوية لو كان في موضع عثمان: "ليس من خطته التي يختارها لنفسه ويحمل تبعاتها على عاتقه، أن يقتل ثلاثة من أقطاب الصحابة كعلي وطلحة والزبير، كما أشار على عثمان، وإنما يبوء عثمان بتبعتها، ويترك الأمر من بعده لمعاوية، بغير منافس ينافسه عليها، بعد مقتل الثلاثة الذين كانوا مرشحين لها عن أهل الحجاز وأهل الكوفة وأهل مصر".

معقباً هنا أيضاً العقاد على آراء أخرى، نصح معاوية بها عثمان (كبدائل): "وأما الإشارة على عثمان بإقامة أربعة آلاف من خيل الشام يحرسونه، فهو تسليم للحجاز إلى أيدي معاوية في حياة الخليفة، وبعد حياته، فلا يقدر أحد على بيعة فيه غير البيعة التي يرضاها..".

وبالنسبة لرأي آخر (بديل) لدى معاوية، يقول الكاتب: " وخروج عثمان من المدينة إلى الشام مع معاوية، ينقل العاصمة إلى دمشق، ويجعل القول الفصل بعد موت الخليفة، لصاحب القول الفصل في الشام (أي معاوية). وما من أحد قط ينتفع من العمل بهذه النصائح غير معاوية في جميع الحالات".

ـ تاسعاً: ثم نصل إلى ذروة هذه الحال، حين يقول العقاد في الفصل نفسه (وقد آل أمر الحكم كله إلى معاوية):

ويضيف: "ووقعت الواقعة ومات الخليفة قتيلاً، وذهب معاوية يطالب بدمه، وينكر على "علي" بيعته، لأنه لا يسلمه قتلة عثمان، ممن يذكرهم إجمالاً أو يسميهم بأسمائهم، وآل الأمر كله بعد حين إلى معاوية يصنع بهؤلاء ما يشاء، فلم يأخذ واحداً منهم بجريرة مشهودة، ولم يحاسب أحداً على جريرة مستورة تتطلب الإشهاد، وكان يلقى الرجل منهم فلا يزيد على أن يسأله كما سأل "أبا طفيل": ألست من قتلة عثمان؟ ثم يصرفه في أمان، وقد يسكت عن سؤاله ويصرفه مزوداً بالعطاء".

أكثر من ذلك.. يضيف العقاد: "ولم يخف هذا الموقف الذي لا خفاء به، على أبناء عثمان وبناته، فإنهم كانوا يرون معاوية فيلقونه بالبكاء ويذكرون أباهم، ليذكروه بدمه المطلول ووعده بالثأر له، ثم سكوته عن الثأر..".

ويتابع العقاد هنا، ما يمكن لنا، أن نعتبره "خلاصة" لهذا الأمر ككل: "فالمطالبة بدم عثمان إنما كانت قائمة حين كانت لازمة للتحريض على علي، وبث الدعوة والتمكين لمعاوية، فلما تمكن واستطاع ما لم يكن في وسع علي أن يفعله، سكت عن الثأر وحديثه، إلا ما كان من قبيل الحوار العقيم في المجالس. وقبل من نفسه العذر ضعيفاً هزيلاً، ولم يكن يقبله قوياً معززاً بالواقع والبينة ممن لا لوم عليه. ذلك أيسر ما يقال عن حقيقة الموقف من قضية عثمان ومطالبة معاوية بدمه، وكل ما فعله معاوية من نصرة عثمان قبل مقتله وبعده فهو ثابت النفع لمعاوية غير ثابت النفع لعثمان".

مختتماً مؤلف الكتاب المفكر والمؤرخ الكاتب الشامخ، فصله هذا ككل، بهذه الفقرة الخاتمة القاطعة الجلية: "قضاء التاريخ في موقف معاوية من عثمان، أنه موقف يسقط كثيراً من التهم، التي كان يكيلها لخصومه، ويسقط كثيراً من الأعذار التي كان ينتحلها لنفسه، ويوجب على المؤرخ أن ينفذ من وراء التهم والمعاذير إلى تفسير واحد لوقائع الثورة التي ثارها معاوية باسم عثمان، فإن أصدق البواعث لها أنها ثورة في طلب الملك، أعوزتها الحجة، فالتمستها من مقتل الخليفة الشهيد".

 

صفة الدهاء عند معاوية


ـ عاشراً: في فصل بعنوان "الدهاء"، يناقش العقاد، ما قيل وتردد عادة حول اتسام أو اتصاف معاوية بالدهاء، ويناقش: إلى أي مدى؟ وفي أي نوع من الدهاء حقا؟.. حال معاوية.

وأفضل تلخيص، أو خلاصة، لهذا الفصل ـ المطول ـ هو ما قام به العقاد نفسه في أواخره، بالقول المحدد التالي: "نحسب أننا في هذا الفصل قد ألممنا بأفانين الدهاء التي نسبت إلى رأس الدولة الأموية، ويتبين منها جميعاً أن دهاءه من قبيل الدهاء الذي يعول على قضاء المصالح وتبادل المنافع، ويتساوى فيه دهاء الطرفين أو يكون الرجحان من قبل الطرف الآخر.. فليس دهاء معاوية من قبيل ذلك الدهاء الذي يسوق الأعوان سوقاً إلى خدمة مقاصده بسلطان القدرة العقلية الخارقة..".

بل يصل تحليل ـ وتحديد ـ العقاد، إلى القول والإضافة في هذا الموضع عن معاوية: "الرجل على نصيب متوسط من العقل، يملي له طبع مفطور على الأناة، لم تتعجله الحوادث قط كما تعجلت منافسيه في الحجاز والعراق، وكان ذلك النصيب حسبه من العدة في ذلك النزاع الذي لا سواء فيه بين المصاعب والعقبات من الجانبين..".

على أن أخطر ما في هذا الفصل بعنوان "الدهاء"، وأيضاً في الفصل التالي بعنوان "الحلم" (وهما كما قال العقاد أكثر صفتين امتدحه بها مادحوه ـ ولدى كاتبنا كما يفصل ويحلل تحفظات حتى على كلا هذين الأمرين المشهورين!). نقول أن أخطر ما في فصل "الدهاء".. هي أنه إذا كان ابن معاوية "يزيد" حينما تولى الحكم قد قتل حفيد الرسول عليه الصلاة والسلام (الحسين رضوان الله عليه)، فإن معاوية نفسه قد سبق ابنه إلى قتل حفيد الرسول الآخر ـ الأكبر ـ (الحسن رضوان الله عليه).

إذ يتوقف العقاد ـ في فصل "الدهاء" ـ أمام ما أسماه "الوسائل الخفية"، وهنا نذكر نص "القول الخطير" له: "ما رواه الرواة عن الوسائل (الخفية) التي توسل بها معاوية، للغلبة على خصومه ومنافسيه، وحسبت يومئذ من ضروب دهائه أو من ضروب كيده، وهو مرادف عند عامة القوم لمعنى الدهاء. مات الحسن، ومات مالك بن الأشتر الذي ولاه "الإمام علي" مصر بعد عزل قيس، ومات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعوجلوا جميعاً بغير علة ظاهرة، فسبق إلى الناس ظن كاليقين أنها غيلة مدبرة، وأن صاحب الغيلة من كان له نفع عاجل بتدبيرها، وهو معاوية. ونقل عن ابن العاص بعد موت الأشتر أنه قال: (إن لله جنوداً من عسل).. وكان موت الأشتر بعد شربة من العسل لم تمهله غير ساعات. ونقل الخبر عن دس السم للحسن رضوان الله عليه مؤرخ من الأمويين هو أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني المشهور. قال في كتابه "مقاتل الطالبيين": (أرسل معاوية إلى إبنة الأشعث: إني مزوجك بيزيد ابني على أن تسمي الحسن بن علي.. وبعث إليها بمائة ألف درهم فقبلت وسمت الحسن، فسوغها المال، ولم يزوجها من يزيد".

ويحدد العقاد باستمرار مراجعه ومصادر ما يذكر، كعادته في دراساته وكتبه القيمة، وكعادة العملاق الآخر طه حسين في كتبه ومنها دراسته التاريخية كتابه العظيم "الفتنة الكبرى"، وكغيرهما من الباحثين الكبار المتعمقين المدققين.

ففي هذا الموضع على سبيل المثال، من فصل "الدهاء" يقول العقاد: "وجاء في أخبار سنة ثمان وثلاثين، لابن الأثير: (خرج الأشتر يتجهز إلى مصر وأتت معاوية عيونه بذلك فعظم عليه، وكان قد طمع في مصر فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر..".

ورجع العقاد هنا أيضاً إلى رواية "الطبري"، التي ذكرت بتفصيل واقعة موت الأشتر "بالسم".. مضيفا رواية الطبري هنا ما نصه: "..وقام معاوية خطيباً ثم قال: (أما بعد.. فإنه كان "لعلي" يمينان، فقطعت إحداهما "بصفين"، يعني عمار بن ياسر، وقطعت الأخرى اليوم، يعني الأشتر)..".

ويضيف العقاد: "وشاعت الشوائع بمثل ذلك عن آخرين من أعداء معاوية ومنافسيه، يملى للناس في تصديقها أن هؤلاء الأعداء ماتوا بغير علة موصوفة، في الموعد الذي يبغيه معاوية وتترتب عليه سياسته التي كان يرجئها إلى مواعدها.. فالحسن يموت قبل بيعة يزيد، كي لا يخرج معاوية على شرطه المكتوب للحسن، ومالك بن الأشتر يموت على أبواب مصر، وعبد الرحمن بن خالد يموت وهو في أوج سمعته بين قوم أعجبوا من قبل بأبيه، ويوشك أن يتجمع حوله الناقمون من أهل الشام وأهل الكوفة والحجاز..".

وبعد، نصل إلى الفصل الأخير "الخاتم" من كتاب العقاد، عن معاوية بن أبي سفيان، بعنوان "في الميزان"، هذا الكتاب الذي نحسبه جديراً بلا مراء ـ وبلا منازع ـ بمكانة الصدارة والمقدمة، فيما صدر عن سيرة وعمل معاوية من كتب ودراسات.

في فصل "في الميزان" الذي يجمل فيه عباس محمود العقاد خلاصة كتابه ورؤاه، يقول بوضوح وحسم وعلم ضمن ما ارتآه: "إذا وزنت قدرة معاوية بميزان النجاح حصل من نجاحه في كفة الميزان حاصل قليل، يهون شأنه، مع أثقال الكفة الأخرى من الجهود والشواغل والهموم. فقد أراد الملك له ولبنيه، ولم يرده لبني أمية أجمعين، لأنه فرق بينهم ما اجتمع، وأغرى أناساً منهم بأناس، ولم يعمل عمله إلا ليتركه من بعده لعشيرته من بني سفيان، فلم يخلفه من ذريته غير يزيد، وذهب يزيد في عنفوانه بداء الجنب فلم يخلفه أحد من ولديه..".

يقول أيضاً العقاد في الفصل.. "في الميزان": "إن الناس عرفوا في زمان معاوية، فارقاً شاسعاً، بين ولي الأمر الذي يتخذ الحكم خدمة للرعية، وأمانة للخلق والخالق، وشريعة لمرضاة الناس بالحق والإنصاف... وبين الحكم الذي يحاط بالأبهة، ويجري (يجور) على سنة المساواة ويملي لصاحبه في البذخ والمتعة، ويجعله قدوة لمن يقتدون به في السرف والمغالاة بصغائر الحياة..".

 

إقرأ أيضا: عصر معاوية.. قراءة معاصرة في بواكير الخلاف الإسلامي (1 من 2)

التعليقات (0)