الخيبة.. وما بعدها

هل سنكون مبالغين إذا قلنا إن "خيبتهم كانت ثقيلة"، أو "تئيلة"، وفق اللهجة المصرية، أم أنهم كانوا يتوقعونها بالفعل، وذهبوا وهم يدركون ذلك لأن استحقاقات السياسة فرضتها عليهم.

في السياسة، وكما في سائر شؤون الحياة الأخرى، ستحتاج في سياق قراءة الأحداث ومآلاتها إلى قدر من التحليل النفسي، ولذلك قلنا ونقول إن فهم السياسة يتطلب قدرا من الثقافة الموسوعية التي تشمل علم النفس أيضا، وفي المقدمة؛ فهم طبيعة النفس الإنسانية من خلال القرآن الكريم الذي فصّل في الأمر على نحو لا يتوفّر في كتاب آخر.

للأنظمة ونخبها السياسية أحوال وأحوال، تختلف بين فئة وأخرى، وبين دولة وأخرى، وبين مرحلة وأخرى أيضا، لكن قراءة المحطة الأخيرة، ممثلة في اتفاق التطبيع الإماراتي الصهيوني ليست هامشية، ليس لكونها امتدادا لسياسات أخرى كان لها تأثيرها الكبير على أحوال الأمة جمعاء، بل أيضا لأنها تؤثر على قضية الأمة المركزية. هذا بجانب ما يعنينا أكثر في هذه السطور ممثلا في الخيبة التي أصابت القوم وأسبابها ودلالاتها.

قبل سؤال الخيبة؛ هل يمكن القول إن ثمة سببا واحدا يقف خلف قرار التطبيع الإماراتي، أم أن هناك أسبابا عديدة؟

الحق أن القول إن سبب التطبيع هو مجاملة ترامب، فضلا عن الخضوع لإملاءاته لا يبدو مقنعا بحال، فأمريكا لم تعد هي أمريكا القديمة التي تأمر فتُطاع، مع أن تحدّيها كان ممكنا على الدوام، من دون أن ينفي ذلك أن كسب ترامب، ودعمه في الانتخابات قد يكون سببا من الأسباب.

مجاملة الصهاينة ومن ثم التحالف معهم ضد تركيا وإيران، تمثل البعد المحوري الذي حرّك ولا زال يحرّك محور الثورة المضادة

ويأتي تبعا له البعد المتمثل في محاربة "الربيع العربي"، و"الإسلام السياسي"، وهي المعركة التي دُفعت من أجلها عشرات المليارات إلى الآن، ولا زال الدفع مستمرا.

الخيبة التي تعنينا الآن تتمثل في أن المليارات التي دُفعت في سياق حرب الربيع العربي و"الإسلام السياسي"، وحروب الأفكار، والتدخل حتى في منظومة الدين، وتشجيع التطبيع والعلاقات مع الصهاينة عبر سيل من وسائل الإعلام وجيوش "إلكترونية"، ونخب دينية وفكرية.. كل تلك المليارات لم تحقق أدنى نجاح في المعركة الأخيرة، وذهبت كالعصف المأكول أمام جحافل من أبناء الأمة الذين تطوّعوا للدفاع عن قضيتهم، وتجريم التلاعب بها.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا أيضا: هل فوجئ القوم بالخيبة، أم أنهم كانوا يتوقعونها؟

هنا يتدخل التحليل النفسي، فمن جهة كانوا يدركون في قرارة أنفسهم أن صدامهم مع الأمة في كل محطات ربيعها، لن يمنحهم غير السخط والكراهية، ومن جهة أخرى، كانوا يعتقدون أن بوسعهم من خلال المال المتدفق، ووسائل الإعلام والجيوش الإلكترونية أن يشوّهوا وعي الأمة وضميرها الجمعي، وينتصروا تبعا لذلك. ولهم بكل تأكيد "ملأ" يؤكدون لهم أن النجاح في ذلك ممكن.

لم يدركوا أن لهذه الأمة من الوعي الجمعي والمخزون الثقافي والقيمي ما لا يمكن العبث به، ولها نماذج في الصدق والنزاهة والبطولة لا يمكن حذفها، ولذلك خسروا وسيواصلون الخسارة، ما لم يغيّروا المسار.

هل يمكن أن يغيّروا؟ لا يبدو ذلك، فقد ذهبوا أبعد مما يمكن تخيّله، حين تجاوزوا مطاردة أحلام الحرية إلى مطاردة قضية الأمة المركزية، وانحازوا لألد أعدائها دون مبرر. ماذا لو فعلوا؟ إذا فعلوا، فلكل حادث حديث، وللأمة منطقها في تجاوز الجراح إذا تغيّرت السياسات على نحو جدي وحقيقي.