هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يتصاعد التوتر بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في الموقف من الاتفاق النووي المقبل على الموت بفعل السياسات الأمريكية، بعد احتماء واشنطن بورقة تفعيل آلية "فض النزاع" ضد إيران في مجلس الأمن، في خطوة أحادية غير قانونية بسبب انسحابها من الاتفاق النووي، لكن بموازاة ذلك، ثمة معطيات توحي بمساع تبذلها دول هذه الأيام لإطلاق وساطات جديدة بين الطرفين، يمكن اعتبارها جهود "الدقيقة التسعين" في الفترة القليلة المتبقية من ولاية دونالد ترامب، قبل أقل من شهرين من موعد تنظيم الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحساسة للغاية في الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
والدول التي تسعى إلى إطلاق هذه الوساطات في هذا التوقيت الحساس في الداخل الأمريكي، هي روسيا الاتحادية، التي ترغب بخوض هذا المسار لأول مرة، وسويسرا المعروفة بأنها أحد الوسيطين الرئيسين بين إيران والولايات المتحدة خلال العقود الأربع الأخيرة، إلى جانب سلطنة عمان. والمفارقة أن روسيا لم تسجل من قبل أنها قامت بأي جهود وساطة بين الطرفين، وهي أعلنت في خطوة ملفتة للنظر، الثلاثاء الماضي، على لسان وزير خارجيتها سرجي لافروف، استعدادها للوساطة بين طهران وواشنطن لدفعهما باتجاه إجراء مفاوضات مباشرة. ولافروف الذي قدم هذا الاقتراح أمام عدد من أساتذة وطلاب جامعة "مغيمو" للعلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الروسية، لا يبدو أنه حاول أن يسجل فقط موقفا إعلاميا أو قاده الحديث فجأة إلى طرح هذا الموضوع، دون أن يكون قد فكر قبل اللقاء مليا بهذا الأمر ويقصد ما يطرحه.
والدليل على ذلك أن الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين أيضا كان قد تقدم بمقترح مماثل بعيد فشل واشنطن في تمرير قرارها في مجلس الأمن لتمديد حظر الأسلحة على إيران، خلال الشهر الماضي، بدعوته إلى قمة افتراضية للدول الأعضاء بمجلس الأمن وإيران، في تدبير هدف إلى جمع الرئيسين الإيراني والأمريكي على طاولة واحدة، غير أنه لم يلق تجاولا، لا من إيران ولا من الولايات المتحدة، إلى أن اقترح لافروف بعد ذلك الوساطة بين الطرفين.
أن وضع ترامب الداخلي يشجع صناع القرار الإيراني على الصمود في مواجهة الضغوط الأمريكية القصوى، لتجاوزها، على أمل أن تطيح الأزمة الداخلية الأمريكية بترامب، وتتهيأ ظروف أفضل بين البلدين لإجراء عملية تفاوض، مرة أخرى، على قاعدة "ربح ربح"، للوصول إلى صفقة أخرى على غرار صفقة الاتفاق النووي.
المقترحات الروسية، غريبة، لكونها الأولى من نوعها، منذ أكثر من عامين، بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، ما يثير الفضول حول الدوافع الروسية، الذي يستدعي إطلاق عنان التكهنات لمعرفتها ولو بشكل تقريبي، لأهمية الأمر.
وعليه، يمكننا أن نتحدث هنا عن دافعين مهمين: الأول أن روسيا ربما تبلورت لديها مخاوف حقيقية من أن مآلات التصعيد الأمريكي الراهن في موضوع الاتفاق النووي، من خلال تفعيل آلية "فض النزاع" ضد إيران في مجلس الأمن، والذي سيدمر تماما الاتفاق النووي، ويعيد الكرة إلى ما قبل تموز (يوليو) 2015، حينما تم التوقيع على الاتفاق، قد لا تتوقف عند هذا الحد وتتجاوز إلى تطورات أخرى أكثر خطورة، يتجه نحوها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال الشهرين المتبقين حتى الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، وفق حساباته الانتخابية لخلط الأوراق الانتخابية، التي باتت تميل لصالح منافسه الديموقراطي جو بايدن.
والدافع الثاني هو أن الرئيس الروسي الذي لا يخفي عدم رغبته في فوز ترامب بولاية ثانية، لأهمية ذلك في الحسابات الروسية الاستراتيجية، لأسباب عدة، لا مجال لتناولها في هذا المقام، يريد في "الدقيقة التسعين" قبل إجراء الانتخابات الأمريكية توفير دعم استراتيجي لترامب من خلال الدفع باتجاه مفاوضات مباشرة بين طهران وواشنطن.
والمقترحات الروسية، لا تبدو أنها مبادرات مكتملة الأركان، حتى اللحظة، وهي بالونات اختبار، أقله هذا حسب ما هو معلن، وربما يجري وراء كواليس السياسة ما لا نعلم به، لذلك قد يكون الهدف من هذه المقترحات حاليا جس نبض صناع القرار الإيراني، بشأن إمكانية إقناعهم بالتفاوض مع الإدارة الأمريكية، وذلك لصعوبة الأمر إن لم يكن لاستحالته بسبب الموقف الإيراني الرافض القاطع لإجراء أي مفاوضات، وتحديدا في الوقت الراهن، قبل أن يقدم الرئيس الأمريكي خطوة للوراء من خلال إلغاء العقوبات أو أقله تخفيفها، وهو من غير المتوقع أن يفعله ترامب لتأثيره الانتخابي السلبي. وعلما بأن طهران، من جهتها، رفضت بـ"احترام" المبادرات الروسية، معلقة عليها بالتأكيد على شروطها المسبقة قبل أي تفاوض مع إدارة ترامب.
أما دولة سويسرا الراعية للمصالح الأمريكية في إيران، فهي الطرف الثاني الساعي على ما يبدو إلى القيام بالوساطة في "الدقيقة التسعين"، وذلك من خلال إيفاد وزير خارجيتها إيغناسيو كاسيس إلى طهران، الإثنين المقبل. رغم أن الخارجية السويسرية، حاولت أن تختزل الزيارة في إطار العلاقات الثانية من خلال القول إنها تأتي بمناسبة إحياء مئوية إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، لكن عناوين مباحثات كاسيس في طهران تتجاوز ما هو ثنائي بين الطرفين، حيث أشارت الخارجية السويسرية إلى أنها تشمل أيضا تطورات الاتفاق النووي وموضوع القناة المالية السويسرية للتجارة مع إيران في السلع الإنسانية، والتي تأسست بموافقة أمريكية.
والمؤشر الآخر على احتمال سعي سويسرا لتفعيل الوساطة، بعدما أخفقت خلال العامين الأخيرين، عدة مرات، هو مباحثات هاتفية، أجراها الوزير السويسري مع مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي، الأسبوع الماضي، قبل الزيارة إلى طهران، ما يوحي بأن كاسيس يقصدها كمبعوث أمريكي، وربما يحمل رسالة أمريكية تحت ضغط الحراك الأمريكي في مجلس الأمن، كآخر محاولة أمريكية لإقناع إيران بالتفاوض لحاجة ترامب الماسة في تسجيل نقاط مهمة في السياسة الخارجية، لاستخدامها في البازار الانتخابي.
وأخيرا، يستبعد تماما أن تسجل المحاولات الروسية والسويسرية لتدشين وساطة جديدة اختراقا يذكر في الأزمة الشائكة بين إيران والولايات المتحدة في هذا التوقيت، إذ لا يبدو فيه أن إيران في وارد حساباتها، الرهان على ما تعتبره حصانا خاسرا، ومنحه حبل النجاة من وضعه المتأزم. إذ إن وضع ترامب الداخلي يشجع صناع القرار الإيراني على الصمود في مواجهة الضغوط الأمريكية القصوى، لتجاوزها، على أمل أن تطيح الأزمة الداخلية الأمريكية بترامب، وتتهيأ ظروف أفضل بين البلدين لإجراء عملية تفاوض، مرة أخرى، على قاعدة "ربح ربح"، للوصول إلى صفقة أخرى على غرار صفقة الاتفاق النووي.