كتاب عربي 21

مصر أو الموجة الثورية الثانية

محمد هنيد
1300x600
1300x600

صحيح أنه من المبكّر الحديث عن موجة ثورية ثانية قادرة على إسقاط النظام، لكنه لا شيء يمنع القول إنّ بوادر الموجة الثورية الجديدة قد تكون مقدمة لمشهد قادر على الإطاحة بنظام الانقلاب. نحن أمام مفترق طرق لا أحد يستطيع التنبّؤ بمخرجاته ونتائجه على المستويين القريب والمتوسط لكن بالمقابل يمكن تبيّن المسارات الممكنة لهذه الموجة الاحتجاجية الجديدة بناء على المسارات التي عرفتها ثورة يناير أو بقية ثورات الربيع العربي الأخرى أو حتى بناء على السياق الجديد الذي تمخضت عنه الموجات الانقلابية وجرائم الثورة المضادة في حق المُنجز الثوري. 

الموجة الجديدة 

إلى حدود كتابة هذه الأسطر فإن التحركات الاجتماعية الأخيرة قد اقتصرت على القرى وعلى منطقة الصعيد وبعض المناطق المتفرقة وهو ما يجعل مركز انطلاق الحركة الاحتجاجية الداخل المصري العميق. كما تميزت هذه الحركة بتمددها الذي يتنامى يوما بعد يوم، كما قامت هاته الحركة بناء على دعوات خارجية منها على وجه الخصوص دعوة المقاول السابق بالجيش المصري الذي أطلق شرارة الدعوة إلى الاحتجاج. 

بهذه الخاصية تكون الثورة المصرية الجديدة مشابهة لخصائص انطلاق الثورة في تونس والتي انطلقت من الداخل التونسي العميق في القرى والأرياف قبل أن تبلغ العاصمة والمدن الكبرى لتُعلن بذلك عن نهاية النظام وسقوطه. أي أنّ الحركة الثورية اليوم وإن لم تبلغ العاصمة والمدن الكبرى في مصر إلا أنّها بصدد تثبيت أركان الحركة الاحتجاجية وترسيخها بشكل يمنحها القدرة على إحداث زخم تتابعيّ ثابت في مرحلة موالية. 

 

لن تكون القوى الغربية قادرة على إنقاذ النظام المصري كما فعلت خلال ثورة يناير بسبب أوضاعها الاقتصادية من ناحية أولى وبسبب طبيعة المشهد المصري الجديد الذي أدرك المؤامرة التي تعرض لها خلال الانقلاب على الشرعية التي انتهت باغتيال الرئيس الشرعي.

 



لم تكن الموجة الجديدة مفاجئة بل كانت حركة منتظرة منذ مدّة بعد أن بالغ النظام الانقلابي في القمع واخترق كل الخطوط الحمر في التنكيل بالمعارضين وفي إفقار الشعب المصري وبيع السيادة الوطنية. جعل نظام السيسي من الشعب المصري عدوّا له وحقل تجارب لكل مشاريعه التي مكّنت رجال العصابات الجدد داخل المؤسسة العسكرية وخارجها من وضع اليد على ثروات ضخمة والاستحواذ على أموال طائلة من الصفقات العمومية والمشاريع الوهمية. 

بذلك بلغ منسوب الاحتقان الشعبي مستويات مخيفة فاقمت من شدّته جائحة كورونا التي عرّت انهيار القدرة الطبية والاقتصادية وجعلت الطبقات الشعبية الضعيفة في مواجهة الموت دون أي مساعدة أو تدخل من الدولة ثم بلغ الأمر مداه عندما شرع النظام الانقلابي في مصادرة أراضي المصريين وهدم منازلهم وتحويلها إلى مشاريع لصالح منظومة النهب الجديدة. هكذا صنع الانقلاب شروط سقوطه وهو ما قيل منذ بداية الانقلاب على الشرعية، أنّ النظام الجديد يحمل شروط فنائه في داخله. 

السياق الجديد
 
من المهم التنبيه إلى خصوصية السياق الجديد وخطورته لأنّ الوضع اليوم في مصر وفي الإقليم هو وضع مغاير لسياق ثورة يناير. هذا الكلام لا يعني أن الوضع العام قد تغيّر ولكنه يعني أن عناصر جديدة صارت من مكوّنات المشهد المصري والعربي ولا بد من أخذها في الاعتبار لفهم مسار الحركة الثورية الجديدة. 

مصريا أحكم النظام العسكري قبضته على مؤسسات الدولة ومراكزها الحية أمنيا وسياسيا وعسكريا وسيطرت المخابرات على كل مظاهر الحياة بشكل أشدّ مما كان عليه الأمر زمن مبارك. في مرحلة موالية قام زعيم الانقلاب بتعيين الموالين له في مناصب حساسة بالدولة فاستبعد الحرس القديم وتراجع نفوذ قوات الشرطة مقابل توسع نفوذ العسكر مما خلق دوائر غاضبة داخل المنظومة الانقلابية نفسها. كما أنّ زعيم الانقلاب قد استحوذ لنفسه على كل السلطات وجعل الدولة كلها في خدمته وفي خدمة وكلائه الذين أوصلوه إلى سدّة الحكم في الخليج ومن وراء البحار. 

لكنّ النظام قد اكتسب من جهة أخرى خبرة كبيرة في التعامل مع الموجات الاحتجاجية وهو ما يُلغي عنصر المفاجأة الذي تمتعت به ثورة يناير. فالنظام في مصر على أتم الاستعداد للتعامل مع الموجة الثورية الجديدة لكنه مهما بلغ من الحيطة والاستعداد والحذر فإنه غير قادر على حسم المواجهة الأخيرة لصالحه.

ليس أمام النظام حلول كثيرة بل إنه سيعيد استنساخ حلول الاستبداد القديمة متمثلة في آلية القمع الدموي بقنص المتظاهرين والتنكيل بالمحتجين كعادة كل الجيوش العربية أمام مطالب شعوبها. سيُفعّل النظام آلية الإرهاب بصناعة التفجيرات لتبرير قمع المتظاهرين وإطلاق النار واعتقال الأبرياء وقد يلجأ إلى أسلوب الاغتيالات السياسية لخلط الأوراق مثلما هي عادة الأنظمة القمعية العربية. لكنّ هذا التصوّر القمعي سيكون بمثابة الزيت فوق النار لأن اللجوء إلى القتل والقمع الوحشي سيضاعف من تأجيج الثورة خاصة في السياق المصري الذي لم يعد فيه للشعب الفقير شيء يخسره.

إنّ حالة اليأس العميق التي صارت تسيطر على قطاع واسع من الشعب المصري الفقير هي التي ستكون وقود المرحلة القادمة ولن يزيدها قمع السلطة إلا إصرارا على إسقاط النظام. إنّ أهم ما يميز الموجة الثورية الجديدة أنها موجة الفقراء والمهمشين وهذا ما يجعل منها موجة نقية المنطلق والمسار بعد فشل نظريات النخب والأحزاب والقوى السياسية.

رهانات الإقليم 

إقليميا لن يكون سقوط النظام أو انفتاح المشهد المصري على حالة من الفوضى العارمة إلا مؤشرا على قرب سقوط النظام الرسمي العربي وتصدّع أعمدته التي أفلتت من الموجة الثورية الأولى خلال ثورات 2011. إن سقوط الانقلاب في مصر يعني سقوط كل المشاريع الاقليمية التي راهنت على الثورات المضادة وعلى قمع مطالب الحرية وتصفية المُنجز الشعبي. فصفقة القرن ومسار التطبيع مع الصهاينة ومحاولة إحياء الأنظمة العسكرية في ليبيا وسوريا والجزائر واليمن... كلها ستجد نفسها أمام واقع جديد مختلف تماما عمّا خُطّط له.

هذا الأمر سيدفع القوى الخليجية الداعمة للانقلابات إلى مأزق خطير لأنها لم تعد تملك نفس الإمكانيات المادية التي كانت لها منذ عشر سنوات كما أنّ الشعوب قد راكمت من الوعي ما يجعلها قادرة على التمييز بين مطلبها في الحرية وبين مطلب المنظومات الانقلابية في تأبيد الاستبداد. مصر ليست ليبيا وليست تونس وليست اليمن بل هي قلب الأمة ومحور رحاها ومصدر التغيير فيها فإن هي نجحت في التحرر من الاستبداد فستكون قاطرة جديدة لكل مشاريع التحرر وستعيد صياغة كامل المشهد العربي من المحيط إلى الخليج.

لن تكون القوى الغربية قادرة على إنقاذ النظام المصري كما فعلت خلال ثورة يناير بسبب أوضاعها الاقتصادية من ناحية أولى وبسبب طبيعة المشهد المصري الجديد الذي أدرك المؤامرة التي تعرض لها خلال الانقلاب على الشرعية التي انتهت باغتيال الرئيس الشرعي. إنّ ما راكمه النظام الانقلابي خلال السنوات الماضية من ظلم وقمع سيكون كفيلا بجعل الموجة الجديدة موجة حاسمة لن ترتكب الأخطاء التي ارتكبتها الموجة الثورية الأولى في 2011. 

التعليقات (5)
محمود غزلان
الإثنين، 28-09-2020 08:02 ص
تحليل رائع عبقرية الثورة أنها جاءت من العمق حيث لا نخب على الأرض هناك ومن أعماق الريف يأتي الزحف إلى المركز القاهرة أن شاء الله شكر الله لك أستاذ محمد
الكاتب المقدام
الخميس، 24-09-2020 05:50 م
- 2 - ما جاء في المقالة بأن "التحركات الأخيرة قد اقتصرت على القرى والصعيد" غير دقيق، فمحافظة الجيزة هي جزء من القاهرة الكبرى، والعياط والبدرشين والحوامدية واطفيح هي مدن يغلب عليها الأنشطة الصناعية والتجارية رغم مظاهر الفقر البادية عليها، والقرى الثائرة كالكداية والعطف والبليدة وابو رجوان وكرداسة يتجاوز أعداد سكان بعضها الخمسين ألفاً، وينتقل منها وإليها كل يوم إلى القاهرة طلاب جامعات وموظفين ومهنيين وحرفيين، وابناءها غير المتعلمين يقضون سنوات في الخدمة الإجبارية في الجيش والشرطة. والقول بأن "تلك الموجة قد قامت يناء على دعوات خارجية" فيه مبالغة، فرغم أن محمد علي ابن بلد وجدع، وأفضل اطلاعاً وإخلاصاً وتعبيراً عن المصريين من شخصيات كوائل غنيم، الذي احتفت به جهات داخلية واجنبية مشبوهة، وروجت له في مسرحية هزلية باعتباره مفجر ثورة 2011 وأيقونتها، ولكن نفوس غالبية المصريين تغلي بالسخط والغضب ضد النظام الانقلابي القمعي، وهم مهيئون لانفجار كبير في لحظة قريبة قادمة لا محالة، ولديهم الوعي والتصميم وفي غير حاجة إلى دعوة محمد علي أو غيره. والقول "بأن النظام العسكري احكم قبضته" لا يعبر عن حقيقة أن المجموعة الانقلابية وداعميها ومؤيديها من قوى انقلاب 30 يونيو، قد صفت بعضها بعضاً، انظر إلى عاقبة جبهة الإنقاذ والبرادعي نائب الرئيس ورئيس الوزراء الفريق شفيق والفريق عنان رئيس أركان الجيش، الذين تطول قائمتهم لكراسات، والتماسك الظاهري لمؤسسات الدولة هو تماسك خادع، فمصر اصبحت شبه دولة بقضاءها ومجالسها التشريعية واحزابها وإعلامها واقتصادها وماليتها، وحتى شرطتها وقيادات جيشها يتوجس بعضهم من بعض، وهي على وشك التفكك والانهيار، والقول بأن "النظام الانقلابي على أتم الاستعداد للتعامل مع الموجة الثورية الجديدة" غير صحيح، فالجيش والشرطة قوامهم من المجندين من أبناء الطبقات الشعبية التي عصف بها الانقلاب، وسينقلبون على ضباطهم المنشغلين بمصالحهم الشخصية، والقول بأن "الموجة الثورية الجديدة هي موجة الفقراء" قول صحيح، فهم الذين يقومون بكل الثورات وهم الأقدر عليها، فالطبقات المتوسطة منكمشة ومهمشة ومرتبطة مصالحها بمن بيدهم السلطة والمال، والقول بأن الانقلابيون سيلجأون إلى "القمع الدموي للمتظاهرين" أمر متوقع، والمتوقع أيضاً ان الثورة الشعبية القادمة سيقوم بها الملايين في كل أنحاء مصر، وسيكون في القلب منهأ المجندون السابقون بل والحاليون، وستظهر بينهم قيادات ميدانية شابة واعية وجريئة، وستبدوا مراكز قمع المواطنين المسماة كذباً بمراكز الشرطة وقواتها وضباطها، كاللقمة السائغة في يد الثوار، الذين سيثأرون لقتلاهم ومعتقليهم وبيوتهم التي أبيدت ولأموالهم التي نهبت. أما عن دور النخب السياسية المقاومة للانقلابيين فهذا أمر آخر، والله أعلم.
عماد
الخميس، 24-09-2020 03:46 م
الغريب في الأمر الإفتقاد للمنظرين لرتشيد هذه الثورات
الكاتب المقدام
الخميس، 24-09-2020 02:31 م
1- رؤية شاملة وتحليل دقيق واستنتاجات راجحة عن الوضع الثوري في مصر اليوم ومستقبله المتوقع، ورغم كون الكاتب تونسياً، فإن ذلك لا يقلل من قيمة مقالته بل يزيدها، فقد درج كثيراُ من المتخصصين المصريين على قصر رؤيتهم وتحليلاتهم على الشأن المصري الداخلي مع إهمال ما يدور خارجها والتقليل من شأن تأثيراته، بل إن وصف ما يحدث في مصر باعتباره الثورة المصرية ضد قوى الثورة المضادة الداخلية، هو وصف يقود إلى فهم ناقص واستنتاجات خاطئة، ورغم خصوصية الأوضاع الداخلية في كل دولة عربية، فما يحدث في مصر والعالم العربي من حولها يصح وصفه باعتباره ثورة عربية كبرى واحدة ضد عصابة الحكومات المستبدة العميلة، وستغير مستقبل المنطقة بأسرها لعقود قادمة، ولن تنجح الثورة المصرية إلا بسقوط القوى الداعمة للثورة المضادة، فالسيسي ليس إلا مسخ مشوه العقيدة ضحل الفكر, وهو ليس إلا صنيعة صليبية صهيونية، فقد تعاون معه وأشاد به وبدوره الصهاينة، وقد جاءت آشتون مفوضة الاتحاد الأوروبي فور الانقلاب لإكسابه الشرعية الدولية، بإقناع الرئيس الشهيد مرسي بالاستقالة ليخلوا المنصب لجنرالهم المنقلب، وقد استقبل الاتحاد الأوروبي الجنرال الانقلابي السيسي وأشادوا به، رغم ما ارتكبه من جرائم ضد شعبه، وقد وصف ترامب علانية السيسي بأنه ديكتاتوره المفضل، وأعلن بعد لقاء عقده معه في 2016 بأن السيسي: "رجل قوي وجيد للغاية، وقد قام بعمل رائع في مصر... لم يكن سهلاً البتة"، والسيسي قد صرح علانية بأنه لن يسمح بتهديد أمن اسرائيل، وقد قام بتدمير سيناء فوق رؤوس اهلها خدمة للمصالح الصهيونية، ومحور الشر الممثل في بن زايد وآل سعود قد دعموا الانقلاب ومولوه وروجوا له إعلامياً وخارجياُ، وسقوط السيسي منوط بسقوط ترامب المتوقع في الانتخابات القادمة، وانكفاء اوروبا على أوضاعها الداخلية مع انتشار الوباء وانفصال المملكة المتحدة، وإفلاس بن زايد وبن سلمان المقدر بعد انهيار اسعار النفط، وانكشاف تماهي عصابة الحكام المستبدين مع المحور الصليبي الصهيوني لا ينكره إلا جاهل أو متواطئ، وسيرى الانقلابيون المجرمون قريباً من الشعب ماكانوا منه يحذرون.
المغارات العربية
الخميس، 24-09-2020 10:43 ص
على جنرالات الكفتة التفكير جيدا التضحية بسفيه مصر و عميل الصهاينة السيسي و إما خسارة ما سرقوه من الشعب في البنوك الداخلية و الخارجية. أصبحت كلمة عسكر في المغارات العربية تعني فقط السرقة لا غير السرقة و النهب.

خبر عاجل