في الرابع
والعشرين من أغسطس سنة 1899 ولد خورخي لويس بورخيس في بوينس آيرس، لأبوين
أرجنتينيين ذويْ أصول بريطانية وبرتغالية وإسبانية. من هنا نعرف لماذا أجاد بورخيس
لغات متعددة كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية، ما أتاح له التفاعل مع
طيف واسع من الثقافات والفلسفات الأوروبية.
في فترة
مفعمة بالقلق والآلام الوجودية، حيث الرأسمالية الأوروبية تواجه أزماتها الكبرى،
مخلّفةً حربين عالميتين مرعبتين، وبالتوازي مع انبثاق موجات من الفلسفات الجديدة
والنزعات الحداثية في الأدب والفن، وسطوة التحليل النفسي الفرويدي على العلوم
الاجتماعية وقتئذ.. في تلك الفترة كان بورخيس يخطو خطواته الأولى ككاتب شاب، شديد
النهم للقراءة وهضم المنجز الفكري الحديث.
بل لعلنا
نستطيع أن نقول إن نصوص بورخيس لم تنطبع، وحدها، بطابع الجرأة على اقتراف الأفكار
الغريبة، بل كانت اختيارات بورخيس بشأن نشر إبداعه أيضا، تنزع هذا النزوع العابث
المتمرد، الذي كان سمة ذلك العصر الدموي المخيف.
فحين عاد
بورخيس من أوروبا سنة 1923 أصدر كتابه الأول "حماس بوينس آيرس". طبع منه
300 نسخة، ثم دس نسخ كتابه في جيوب المعاطف التي كان يتركها رواد مجلة
"نوستروس"، وهي مجلة أدبية نالت احترامه، فتوقع أن يكون الرواد
المترددون على مقرها من قراء الأدب الواعين، لكنه، وهو الخجول المنطوي على نفسه،
لم يزرهم ولم يتعرف بهم، بل استعان بصديق له، يعمل محررا بالمجلة، لدس النسخ في
جيوب المعاطف.
وقد أفلحت
خطته، فقد قرأ كتابه رواد المجلة وقدَّمه بعضهم على صفحات المجلات الأدبية.
كان بورخيس
رجل الألعاب الخطيرة على أكثر من مستوى. ولعل نظرته إلى العالم الواقعي باعتباره
نوعا من الأحلام، وليدة إصابته الباكرة في رأسه، تلك الإصابة التي كادت تقتله. كان
في التاسعة والثلاثين من عمره حين صعد الدرج راكضا فتعثر وسقط، على لوح زجاجي،
مصابا بجرح خطير في رأسه، ثم تلوّث جرحه فشارف على الموت. وبعد غيبوبة طويلة،
أفاق، وبدأت رحلته التدريجية نحو كف البصر.
حكى كثير من
الذين واجهوا غيبوبة طويلة عن إحساس ما بالتحرر؛ بخروج الروح من الجسد، أو لنقل
بتعدد الأنا. لعل محمود درويش واحد من الذين أبدعوا في تصوير علاقة الإنسان بجسده،
في جداريته، بعد العملية الجراحية الطويلة التي أجراها. لذلك ربما نما هوس بورخيس
بعالم الأحلام بعد إصابته تلك.
لكنّ المعروف
أنه ارتاب في قواه العقلية، وأراد أن يتثبت من سلامتها، فقرر أن يغامر بالتأليف في
فن لم يُعرف به، حتى إذا أخفق لم يكن ذلك مؤثرا. ولأنه كان قد بدأ يُعرف بتأليف
الشعر والمقالات فقد ارتأى أن يجرب نفسه في القصة القصيرة؛ هكذا ابتدأت الرحلة.
على أن
بورخيس من الكتاب القليلين الذين اشتهروا بقصصهم القصيرة دون غيرها، فلم يكتب في
حياته رواية واحدة، ولم تنل قصائده ومقالاته من الشهرة ما نالته قصصه القصيرة.
وشأن كثير
من المكفوفين أو ضعاف البصر، عوّض بورخيس فَقْدَ البصر بقوة الخيال واتقاد
البصيرة، كما كان مثقفا
ثقافة فلسفية موسوعية وقارئا ذكيا لأعمال فرويد، الذي كان
ذا سطوة هائلة على ذلك العصر.
في قصته
الشهيرة "الآخر"، يبتكر بورخيس فكرة تليق بجنونه. فقد التقى في قصته
بنفسه، عبر الزمن. وهو يبدأ القصة كما يبدأ المقال، وكان ذلك من سماته الأسلوبية
المميزة. يسرد لقاءه بسلاسة عذبة. فقد جلس أمام نهر تشارلز في مدينة كامبريدج، في
فبراير سنة 1969. ثم فوجئ بشاب يجلس بجواره، ويصفر لحن أغنية كان بورخيس يصفره في
شبابه، فأفزعه ذلك، ليبدأ حديثا وديا مع الشاب فيكتشف أنه بورخيس ذاته لكن سنة
1918، حين كان شابا يقطن مدينة جينيف مع أسرته!
ينفتح مدى
الاحتمالات المذهلة. فبورخيس العجوز يعرف جيدا
مستقبل هذا الشاب الجالس على الطرف
الآخر من المقعد. وهذا الشاب يكتشف في بورخيس العجوز مصيره في المستقبل، لكنّ
كُلّا منهما يرفض اللعب على ذلك الأساس. هنا يتوغل بورخيس في عالمه المميز؛ عالم
الأحلام. يقرر بورخيس الشاب أنه يحلم، وهذا الرجل العجوز ليس حقيقة بل حلما، فيردد
بورخيس إحدى الحقائق التي نهض تأسس عليها أدبه: "إذا كان هذا الصباح وهذا
اللقاء حلميْن، فعلى كلينا أن يظن أنه الحالم. وربما توقفنا عن الحلم وربما
واصلناه. وواجبنا الجلي، في الوقت نفسه، هو أن نقبل بالحلم تماما كما نقبل بالعالم
وبأننا نولد ونرى ونتنفس".
تنهض أهم
أعمال بورخيس على تلك الفكرة: أينا الحقيقي؟ وأينا الحالم؟ ثمة تداخل قوي بين
العالمين. فنحن نكتشف في قصته البديعة "كتاب الرمل" أنه يقرأ كتابا، ثم
نجد الكتاب لا ينتهي، فكلما قلَّب صفحاته ظهرت كلمات جديدة، ليست هناك صفحات محددة
فيها كلمات ثابتة، بل تتدفق الكلمات ما دام يقلب الصفحات. إنه عالم
"حُلميّ" بامتيار.
على أننا لا
نستطيع هنا أن نتجاهل التأثير الفرويدي على بورخيس، حيث تنقسم الذات، بحسب فرويد،
إلى الأنا والهو والأنا العليا، وإذا كان الهو يمثل الدوافع الغريزية والمكبوتات،
بينما تصارعه الأنا التي هي أكثر جوانب الشخصية اعتدالا، حتى تنال من إشباع
غرائزها ما يحافظ على الحياة ويشبع الغرائز في آن معا، فلا بد من صراع ما بينهما.
يبدو صراع
بورخيس العجوز مع بورخيس الشاب نوعا من هذا الانقسام. فربما يجوز لنا أن نفترض
استعارة بسيطة، يمثل فيها بورخيس الشاب الاندفاع الغريزي البسيط نحو الحياة، فيما
يحاول بورخيس العجوز لجْمَه قدر ما يستطيع. مثلا يرى الشاب في الأخوة الإنسانية
الشاملة فكرة سامية، يكتب دفاعا عنها، بينما يحاول العجوز تأمل الفكرة وتبصير
الشاب باندفاعه، الذي قد يبدو جميلا من الناحية الأخلاقية، غير أنه لا يصمد أمام
التأمل العقلي. يقول بورخيس العجوز: "فكرت قليلا وسألته ما إذا كان حقا يشعر
بالأخوة نحو الجميع، نحو متعهدي دفن الموتى، نحو سعاة البريد، ومن يغوصون في أعماق
البحار..."
وينتقل
بورخيس انتقالا لطيفا إلى معالجة أفكار فلسفية في ثنايا النص، فيؤكد أن الوجود
الإنساني فردي بالأساس، وأن انحياز بورخيس الشاب إلى جمهور المضطهدين والمنبوذين
هو مجرد تجريد غير واقعي. تلك الأفكار تتوافق مع الفلسفة الوجودية التي تركز على
قيمة الإنسان الفرد، ولعلها كانت وجها فلسفيا للرأسمالية الأوروبية التي منحت
الفرد قيمة كبرى في نسقها الحضاري.
يمضي بورخيس
متلاعبا بهذه الفكرة: أن يلتقي بنفسه، ونلاحظ أنه لم يجعل اللقاء مع قرين أو شبيه
من أي نوع، بل مع ذاته هو، تأكيدا على مبدأ انقسام الذات. لذلك نراه يؤكد على
اختلاف الهويتين، محبطا من تأثير الزمن عليه بحيث لا يتفق مع ذاته الشابة في كثير
من الطروحات والأفكار.
من مرتكزات
اللعب "البورخسي" أن يتناصّ مع نصوص أخرى. فهو مثلا يستدعي إحدى صور
كولردج؛ صورة الرجل الذي حلم أنه في الجنة وأنه مُنِحَ هناك زهرة، وحين صحا من
نومه وجد الزهرة في يده. هذا مستوى شاعري من تداخل الحلم والواقع، لكن بورخيس يضفي
على الصورة نكهة ساخرة، فيستدعيها ويبدأ اللعب؛ يخرج من جيبه دولارات أمريكية
حديثة من إصدار سنة 1969 فينبهر بها الشاب أيما انبهار، لأنه يعيش سنة 1918 ولم ير
في حياته عملات جديدة، ملونة، أنيقة كتلك الدولارات.
بذلك يثبت
للشاب أنه حقيقي، آت من المستقبل.
هكذا لا
أملك إلا أن أتساءل بعد قراءة بورخيس: هل أنا أنا حقا؟