عندما قام الرئيس المصري الراحل أنور السادات بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد أواخر سبعينيات القرن الماضي مع دولة الاحتلال الصهيوني، كانت الساحة الشعبية غير مهيّأة لذلك، لكن ثقافته المحدودة في الحكم والإدارة باعتباره ابنا لمؤسسة "السلاح والسمع والطاعة" في النظام السياسي الحديث، جعلته يقول "99 في المئة من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة"، وهو المبدأ الذي أصاب مصر بأكبر النكابات بعد نكبة الاستبداد السياسي الذي زرعه ونمّاه سَلَفُه.
قرر السادات الذهاب لاتفاقية مع عدو تاريخي دون غطاء شعبي، وكانت النتيجة بعد أكثر من أربعين سنة استمرار الرفض العام لكل ما يتعلق بدولة الاحتلال. ورغم محاولات تشويه حركات المقاومة والشعب الفلسطيني، فلا تزال القضية حاضرة في نفوس عموم المصريين، ولو تغير المناخ السياسي المصري نحو الحرية لشهدنا أحداثا أكثر حدة تجاه سفارة الكيان الصهيوني عما شهدناه عام 2011.
مرت عقود بعد كامب ديفيد وبقي في الوجدان المصري أن العدو الصهيوني سيظل عدوا، كما بقي في الوجدان المصري أن أحد أكبر أخطاء الرئيس الراحل كانت في التقرب للأمريكيين عبر بوابة دولة الاحتلال، وهذه تقدمة لازمة لبيان الفارق بين ما جرى منذ أربعين عاما، وما يجري الآن
مرت عقود بعد كامب ديفيد وبقي في الوجدان المصري أن العدو الصهيوني سيظل عدوا، كما بقي في الوجدان المصري أن أحد أكبر أخطاء الرئيس الراحل كانت في التقرب للأمريكيين عبر بوابة دولة الاحتلال، وهذه تقدمة لازمة لبيان الفارق بين ما جرى منذ أربعين عاما، وما يجري الآن، دون أي محاولة لغسل يد السادات الملطخة بتوقيعه، ولا محاولة تجميل صورته، أو تجميل وجه نظام مبارك، فكلاهما كانا غارقين في
التطبيع السياسي، ولكنهما لم يكونا يقدران على معاندة المزاج الشعبي.
ما الذي تغيّر؟
عندما قامت الدولة الناشئة على حافة الجزيرة العربية بتوقيع اتفاقية مع دولة الاحتلال، عمدت إلى السماح لمواطنيها أن يقوموا بعملية تطبيع، وبدأت التهاني والتبريكات المتبادلة تظهرعلى مواقع التواصل الاجتماعي، دون خجل من الوصم الاجتماعي، أو السخط الأمني، كما أصبح الإمساك بالعلم "أبو نجمة زرقاء" أمرا اعتياديا ويتم توجيه الأطفال إليه، بينما تُوجَّه الإجراءات الأمنية ضد المخالفين، كما جرى
مع الكاتبة الإماراتية ظبية خميس التي كتبت استغاثة تخشى فيها على حياتها بسبب رفض التطبيع.
في مقابل تلك الصورة لم يجرؤ مصري واحد على رفع العلم الصهيوني، ولم يجرؤ مصري عن الحديث بحميمية عن الكيان الصهيوني، بل أقصى ما يمكن لأحد عمله أن يتحدث عن جدوى السلام وأهمية انتهاء الحروب التي استمرت لعقود، ورغم ذلك التحفظ في تقريب الصهاينة للرأي العام المصري، فإن النقابات المصرية كانت تنظم باستمرار فعاليات للتنديد بالاحتلال، وسمح النظام بالتظاهرات ضد دولة الغصب والسرقة في النقابات والجامعات والشوارع.
ومن جهة أخرى، كان معلوما للكافة أن أي محاولة للاقتراب من مقر بعثة دولة الاحتلال في الجيزة، تضع صاحبها في قلب دائرة الشبهات، حتى لو كان على سبيل التواصل بغرض الدراسة، كطلاب اللغة العبرية، كذلك كان معلوما أن أي دارس للغة العبرية خاصة من غير طلاب الآداب في قسم اللغة العبرية، يضع صاحبه في بؤرة الاهتمام الأمني أو التضييق الأمني إذا لزم الأمر، وبعض من قام بتلك الزيارات كان يتم استدعاؤه ويُعامل بطريقة غير لائقة كعادة الجهات الأمنية، ثم يُطلب منه بوضوح عدم تكرار أي زيارة أو تواصل مع مقر بعثة دولة الاحتلال.
على مستوى النشاط الأهلي والسياسي، كانت هناك قوائم سوداء لرجال الأعمال المتعاونين مع دولة الاحتلال، كما كان هناك نبذ لكل من يسعى للتطبيع مهما كانت قيمته الفنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ويجري كل ذلك تحت سمع وبصر الأمن المصري والنظام المصري دون محاولات "ناجحة" لإيقافه.
كذلك كان يقوم مبارك باستقبال رئيس وزراء دولة الاحتلال في شرم الشيخ بعيدا عن العاصمة، وهو يعلم أن استقباله في العاصمة يعني التظاهر ضد الغاصب المحتل أمام مقر إقامته وأمام مقر اجتماعهما، فكانت الزيارات تتم بعيدا عن العاصمة ودون تسليط أي اهتمام إعلامي بها، بخلاف ما كان يجري مع زيارات أخرى تُرفع فيها أعلام دولة الرئيس الضيف في الشوارع.
ما نشاهده على المستوى الخليجي يختلف تماما، فهناك محاولات واضحة لترسيخ وضع "التعايش" مع الضباع الذين يقتاتون على قوت وأراضي الفلسطينيين، وهناك قمع لأي محاولة رفض لذلك الوضع، وهناك تفاهة ووضاعة
ما نشاهده على المستوى
الخليجي يختلف تماما، فهناك محاولات واضحة لترسيخ وضع "التعايش" مع الضباع الذين يقتاتون على قوت وأراضي الفلسطينيين، وهناك قمع لأي محاولة رفض لذلك الوضع، وهناك تفاهة ووضاعة في عملية الترويج لقبول ذلك الجسم الخبيث، فهناك نشرات الأخبار المشتركة، وهناك الغناء المشترك، وهناك الزيارات المتبادلة ممن يُسمّون بالأصدقاء من البلدين، ثم هناك لاعب كرة جرى ضمّه ليلعب في دولة
الإمارات وهو يحمل جنسية المغتصبين ووثيقة المرور الدولية الخاصة بدولة غاصبة.
ثم هناك ما هو أشد وضاعة من كل ذلك، وهو ما يقوم به ذلك المنتسب إلى دعوة الله، من تبرير ما يجري بدافع الدين، وهو يعلم تمام العلم أن ما يقوم به خارج عن نطاق الموروث الديني وقواعد تفسير نصوص التشريع، ولكنها عادته في لعق أحذية سادته وخوفه من سخطهم، فتراه يتقلب حسب هوى سادته المنحطين.
هناك ما هو أشد وضاعة من كل ذلك، وهو ما يقوم به ذلك المنتسب إلى دعوة الله، من تبرير ما يجري بدافع الدين، وهو يعلم تمام العلم أن ما يقوم به خارج عن نطاق الموروث الديني وقواعد تفسير نصوص التشريع
وهذا الوضع الخاص بالخطاب الديني لم يكن موجودا في مصر كذلك، فكانت هناك تفرقة بين الحديث الديني عن السلام (بعد حرب) وعن الحديث عن التطبيع الشعبي والعلاقات المتبادلة، ولا أدلّ على الرفض الشعبي المستمر من أن الوفود السياحية القادمة من هذه الدولة لا يمكنها أن تعلن عن هويتها خارج جنوب سيناء، خوفا من ردود فعل شعبية عنيفة.
مما أذكره خلال فترة تجنيدي في الجيش المصري منذ أقل من عقد، أن الهتاف ضد "
إسرائيل" في الطابور الصباحي أمر معتاد دون نكير، وأن قيادة معسكر التدريب كانت تحدثنا عن أن العدو هو "إسرائيل". ولا أظن هذا الخطاب قد تغير، ولا أظنه كان حالة شاذة في مؤسسة صارمة تجاه قضية كهذه، وأقصى ما يمكن عمله في ظل حكم السيسي تغييب هذا الخطاب لا استبداله بآخر أكثر حميمية تجاه دولة الاحتلال.
ومما أذكره في بداية تعلم الصحافة وورثته إلى الآن؛ أن كلمة "إسرائيل" توضع هكذا بين قوسين، ولما سألت الأستاذة التي كانت تُعَلِّمني - ولا زالت - عن سبب القوسين، فأجابتني مازحة "علشان نفضل خانقينهم بين القوسين، ومياخدوش راحتهم في وسط الكلام".
لكن ما نشهده من أمير الشر في هامش الجزيرة العربية أنه يريد لسادته أن يأخذوا راحتهم كما يشاؤون، بل أن يصبحوا أصحاب القرار في المنطقة وهو الشرطي الخاص بهم، ولا نعلم شرطيا استطاع البقاء في مكانه وهو يقمع غيره ويقتات على دماء وأقوات الآخرين، ويستبقي نفسه في مكانه باستخدام الجريمة والدعارة.
twitter.com/Sharifayman86