تعددت أشكال الشرير على تاريخ السينما. بدأ تطور الوعي السينمائي بأهمية تغير نمط الشخصية الشريرة، وذلك مواكبة للمتغيرات في الحياة السياسية والاجتماعية.
إن بدايات السينما كانت تقدم الشرير بطريقة أحادية الجانب؛ لأن ذاك النمط كان جزءا من تصور فلسفي وجمالي؛ بمعنى أن
الشخصيات لا بد أن تكون أبيض أو أسود، ولا مجال للشخصية الرمادية، أي لا مجال للشخصية الإنسانية الحقيقية، لتصوير ما يعتمل داخلها من متناقضات متباينة ومتنوعة، فجاءت الشخصيات، إما ملائكية أو شيطانية.
ظلت هذه النظرة الجامدة حتى بدأت تظهر الموجات الجديدة في السينما، برؤى مستمدة من نظريات علم النفس الحديث والفلسفات المادية؛ التي تُعلي من قيمة الإنسان وتضعه في مكان غير معزول عن المتغيرات التي تجعله في حالة جدل متداخلة مع حركة التاريخ. الأكثر من ذلك: بدأت شخصية الشرير تأخذ منحى فاعلا، أي مؤثرا ومتأثرا.
يمكن القول إذا؛ إن هذا التطور المتأثر بمجمل التغيرات التي طرأت على المجتمعات وعلى تعبيراتها الفنية والأدبية؛ أصبح يُسلِّط الضوء المباشر أو غير المباشر على أهمية فهم الأسباب، ومن ثم تفسير الملابسات التي أدت للجنوح للشر.
أصبحت النظرة لشخصية الشرير ليس فقط التبرير لهذا السلوك؛ وإنما أيضا تحليل ونقد الواقع الاجتماعي والسلطة السياسية والدينية، بل كل أنواع الهيمنة. فقد يكون الشرير ضحية مرض نفسي، أو ضحية ظروفه التربوية، أز ضحية الاستزلام والاستلاب، أو ضحية النظم الاستبدادية السائدة، أو ضحية اللاوعي الجمعي، أو التعرض للقسوة والتعنيف الجسدي أو اللفظي، وقد يكون نتيجة ظلم وقع عليه فحوّله من شخصية سوية إلى شخصية شريرة.
وتأسيسا على هذا، نُقدم فيلم الأب الروحي "العراب". في الفيلم شخصية دون كرولويني التي أداها مارلون براندو، وشخصية مايكل كرويلوني التي أداها آل باتشينو.
فيلم "الأب الروحي" قصة ماريو بوزو، من إخراج فرانسيس فورد كوبولا. الفيلم بأجزائه الثلاثة يقدم لنا كيفية تحول دون كرويلوني من مواطن فقير مهاجر من إيطاليا.
عانى كرويلوني من شظف العيش المرير الذي دفعه إلى أن يسعى للخلاص، ليتحول إلى زعيم من زعماء
المافيا. يأخذنا الفيلم الأيقونة إلى كيفية تدرج العراب في سلم الجريمة، تحت ضغط الحاجة والظلم. بدأ بجرائم بسيطة كسرقة سجادة من أحد الأثرياء، إلى قتل البلطجي الذي كان يُحصّل الأتاوات من أهل الحي الفقير في نيويورك، ويُمعن في إذلالهم وقهرهم.
يسافر العراب إلى بلدته الصغيرة في إيطاليا؛ ليبدأ بالقتل وبالجرائم الشنيعة. سافر ليذبح من تسبب في مقتل أمه وهو صغير.
قصة الفيلم تقدم المبرر الأخلاقي لدخول كرويلوني الكبير عالم الجريمة؛ من عالم الجريمة نفسه المسيطر في كل مكنونات ما حوله. صحيح أنه لا يدافع عن موقعه الإجرامي، ولكن الصحيح أيضا أنه يُقدِّم قراءة في أسباب دخوله عالم الإجرام.
إذا انتقلنا إلى شخصية، مايكل كرويلوني- آل باتشينو، فهو الابن الأصغر، ولكنه المفضل للأب. مايكل بعيدا عن نشاط العائلة الإجرامي، لكن ما إن يسقط الأب مضرجا في دمائه حتى تستفيق شهوة الانتقام لديه، لتوقظ معها كل ما يتعلق بإرث بقاء العائلة في زعامة، لا يمكن الاستمرار فيها دون عنف الصراع الدموي.
الأب الذي تعرض لمحاولة قتله من زعماء المافيا الآخرين، يمثل بالنسبة للابن كل قيم الحب والعطاء، برغم من معرفة الابن بنشاط أبيه الإجرامي ومحاولة الابتعاد عن ذلك النشاط. ولكن تبدأ شخصية مايكل في التحول، من إنسان وديع إلى وحش شارب للدماء؛ فلا يتورع حتى عن قتل أخيه مع أنه وعده بألا يفعل.
إذن، نحن أمام نموذجين: الأول هو الأب ودخوله عالم الجريمة تحت وطأة الحاجة الاجتماعية وردء الأشرار المستغلين، ونموذج الابن المحب لأبيه، الذي يتحول بالتدريج في عالم الجريمة انتقاما لأبيه ومحافظة على قوة عائلته، إلى أن يصبح زعيما لواحدة من أخطر وأقوى المافيات في إيطاليا وأمريكا، فيصبح مايكل خلفا لأبيه مقترفا الكثير من المذابح.
في الجزء الثالث: يصبح طاعنا في السن، يميل للاستكانة ويحاول العودة إلى طبيعته الأولى. يبدو وكأنه نادم على كل ما اقترفه من جرائم، لكن يصعب على مايكل حتى الحصول على غفران. فالظرف العام السائد وفساد المؤسسات الدينية والسياسية، وتحالف تلك المؤسسات مع عالم المافيا؛ يجعل من رجوعه عن عالمه الإجرامي شبه مستحيل، عندها؛ يعدل عن قرار التوبة. ويفقد ابنته بعد محاولة فاشله لقتله.
إن كلا من شخصيتي الأب والابن، في فيلم الأب الروحي، قدمتا شخصية الشرير ببعدها الإنساني غير المعروف من قبل. سُلط الضوء على أعمال رجال المافيا الأشرار؛ ليس فقط من آل كابوني، وإنما أيضا من عصابات المافيا الأخرى في ذلك الوقت. إن النجاح كان مدويا وساحقا لفيلم العراب (الأب الروحي).. أصبح العراب أيقونة سينمائية عريقة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
ما زال تأثير هذا الفيلم الساحر إلى الآن. تلك النظرة الشاعرية الإنسانية في تناول واقع أدى لهيمنة عصابات المافيا، ذلك العمق في تناول شخصية رجل المافيا، مبدع بطريقة مذهلة. المافيا ذلك العالم الغامض المظلم المليء بالقتل والخيانة والدم وكثير من المتناقضات. باختصار قدم كوبولا دكتور جيكل مستر هايد لشخصية رجل المافيا.