كان
فرناند ميسونييه آخر من تولى وظيفة قطع رؤوس الجزائريين بالمقصلة في الحكومة الفرنسية، وهي الوظيفة التي خدم فيها من عام 1947 حتى عام 1958، قطع أثناءها بحسبه 200 رأس جزائري، من بينهم 45 جزائريا نفذ بهم حكم الإعدام بأمر من وزير العدل الاشتراكي الفرنسي
فرانسوا ميتران.
وقد كان والد فرناند، موريس ميسونييه، الشيوعي وصاحب الحانة، كبير قاطعي الرؤوس في الجزائر العاصمة بعد الحرب العالمية الثانية. وكان عرابه أونري روش أيضا رئيس قاطعي الرؤوس قبل الحرب، وكان يتحدر بدوره من سلالة من قاطعي الرؤوس تمتد إلى القرن السادس عشر. ففي
فرنسا، على ما يبدو، يعتبر هذا تقليدا نبيلا!
وقد غادر فرناند الجزائر بعد الاستقلال واستقر في جزيرة تاهيتي، وهي مستعمرة فرنسية أخرى، حيث افتتح حانة، وهي المهنة الثانية التي تعلمها من والده. وفي عام 1992 عاد فرناند لقضاء فترة تقاعده في فرنسا، بعد أن جمع ثروة، وقد استقر به المقام في قرية فونتين دي فوكلوز في مقاطعة بروفنس، حيث أنشأ فيها متحفا للعدالة والعقاب. وشأنه شأن الكثيرين من أصحاب التجارب العظيمة، ولكي يوثق أعماله النبيلة، نشر فرناند
كتابا بعنوان "كلمات لقاطع رؤوس: شهادة نادرة لمنفذ أحكام جنائية"، يروي فيه قصته، حيث يخبرنا بأنه "لا يحمل أية مشاعر تعاطف تجاه ضحاياه، الذين، كما يقول، كانوا جميعا مذنبين بارتكاب جرائم بشعة، لكنه يذكر أن الوطنيين الجزائريين الحقيقيين هم من تحلوا بأكبر قدر من الشجاعة في النهاية". وقد توفي فرناند في عام 2008.
لم يقتصر شغف فرنسا بقطع رؤوس الناس في الجزائر المستعمرة فحسب، بل كان ذلك ديدنها في مستعمراتها الأخرى أيضا، حيث
قطعت رأس ثوار الكاناك، بمن فيهم زعيمهم وابناه إثر اندلاع المقاومة المناهضة للاستعمار في جزيرة نيو كاليدونيا في عام 1878، والتي استعمرها الفرنسيون عام 1854 وأخذوا يملؤونها بالمستوطنين الفرنسيين (لا سيما ممن بقي منهم على قيد الحياة وتم نفيهم من كومونة باريس). وقد قام الفرنسيون بسجن سكان الجزيرة الأصليين من شعب الكاناك في محميات بعد أن صادروا أراضيهم ومنحوها للمستوطنين.
وكانت ثورة الكاناك المناهضة للاستعمار قد اندلعت مع تمرد الزعيم الأكبر للقبيلة "أتاي". وقد سحق الجيش الفرنسي والمستوطنون وبعض المتعاونين المحليين التمرد. وقد تم الاحتفاظ برأس الزعيم المقطوع ورأسي ابنيه في محلول كحولي من قبل جمعية الأنثروبولوجيا الفرنسية، ليتم عرضها لاحقا في متحف التاريخ الطبيعي. وقد
وصف الفرنسيون مقاومة الكاناك لسرقة الفرنسيين لأراضيهم بأنها "انتفاضة الوحشية ضد الحضارة". وبعد مرور 135 عاما، في عام 2014، أعادت الحكومة الفرنسية رأس الزعيم آتاي إلى نيو كاليدونيا.
أما آخر شخص تم قطع رأسه بالمقصلة في فرنسا، وذلك في عام 1977، فقد كان
حميدة جندوبي الذي ولد في تونس في عام 1949 عندما كانت البلاد لا تزال مستعمرة استيطانية فرنسية. وقد هاجر جندوبي إلى فرنسا عام 1968 وأصبح عاملا زراعيا هناك.
عاش جندوبي في البداية في مدينة مرسيليا في منزل زوجين فرنسيين، كانا مستوطنين سابقين في تونس قبل الاستقلال. وفي عام 1971، عندما كان يبلغ من العمر 22 عاما، انقلب الجرار الذي كان يقوده، نتيجة لإهمال صاحب العمل، ما أدى إلى بتر ساقه اليمنى من عند الركبة. لم يعد جندوبي بعد ذلك كما كان قبل الحادث. فقد أصبحت حالته العقلية غير مستقرة، لدرجة أن أصحابه وجدوه قد أضحى شخصا آخر. ولم يتعاف قط من الصدمة الجسدية والنفسية التي تعرض لها. وفي عام 1974 قام جندوبي بخطف وتعذيب وقتل صديقته الفرنسية البيضاء التي كان قد التقى بها في المستشفى بعد بتر ساقه (خلص الأطباء النفسيون الثلاثة الذين فحصوه بأمر المحكمة إلى أن بتر ساقه كان بالنسبة إلى جندوبي بمثابة إخصاء). وعلى الرغم من مطالبة محامي الدفاع المحكمة بأخذ مرضه العقلي بعين الاعتبار، إلا أن القاضية حكمت عليه بالإعدام بقطع الرأس بالمقصلة.
وخلال نفس الأسبوع الذي جرت فيه محاكمة جندوبي، كانت تجري محاكمة الشاب الفرنسي الأبيض
جان بابتيست دوركل بتهمة قتل امرأة ومحاولة قتل ثلاثة آخرين، وكانت ذراع دوركل أيضا مبتورة. حظي دوركل بتعاطف شعبي كبير معه كونه مبتور الذراع. وبخلاف الحكم الذي صدر بحق جندوبي غير الأبيض، لم يحكم على دوركل بالإعدام بل بالسجن 18 عاما لا أكثر. عندما حكم على جندوبي، أعرب جاك شيراك، الذي كان رئيسا للوزراء آنذاك، عن تأييده لعقوبة الإعدام.
قد يقول قائل بأن الحكم
الإرهابي في المستعمرات وشغف الفرنسيين البيض بقطع رؤوس الشعوب المستعمَرة داخل فرنسا وخارجها قد أصبح من ماضي فرنسا الاستعماري المنصرم، لكن في الحقيقة فإن
العنصرية الفرنسية والفوقية العرقية البيضاء لم تتوقف عند ذلك الحد، بل سارت على قدم وساق دون توقف. وما تعبير وزير الداخلية الفرنسي
جيرار دارمانان عن شعوره بالرعب والصدمة هذا الأسبوع من أن محلات السوبر ماركت الفرنسية تعرض وتبيع اللحم الحلال، فلا يكاد يتعارض مع مواقف الدولة الفرنسية الرسمية والعنصرية المجتمعية المهيمنة. فهي حالة متفشية في الطيف السياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار دون أدنى اختلاف.
فعلى سبيل المثال، عندما نالت الكراهية العنصرية من
جاك شيراك في عام 1991 وتساءل أمام جمهور غفير كيف يمكن لعامل أبيض فرنسي مجتهد أن يحتمل "روائح وضجيج" المهاجرين العرب والأفارقة الكسالى، فقد قوبلت عنصريته بتصفيق عارم من جمهوره الفرنسي الأبيض، وحاز على التأييد الكامل في حينه من زعيم الجبهة الوطنية اليمينية العنصرية جان ماري لوبن. على المرء ألا يتوقع من الجمهور الفرنسي الأبيض اليوم رد فعل عنصريا أقل حدة على تصريحات مماثلة.
أحدثت جريمة قطع رأس المعلم الفرنسي الأخيرة، التي ارتكبها مهاجر شيشاني يبلغ من العمر 18 عاما ردا على خطيئة المعلم المتمثلة في دعمه العنصرية الفرنسية العلمانية الرسمية المعادية للمسلمين، رعبا لدى الجمهور الفرنسي، من البيض وغير البيض، ومن المسيحيين والمسلمين، كما دبت الرعب في نفوس الكثيرين حول العالم. إلا أن ردة فعل إيمانويل
ماكرون العنصرية الفرنسية على الجريمة لم تكن أقل روعا بالنسبة إلى الملايين الستة من المسلمين الفرنسيين، كما كانت بالنسبة إلى معظم الناس خارج فرنسا البيضاء، التي تعيش في عالمها الخاص المعزول عن باقي العالم.
أما الحملة الإمبريالية الفرنسية المؤلفة من 5000 جندي والتي بدأت في عام 2014، التي يُزعم أنها تستهدف مسلحين إسلاميين في منطقة
الساحل الأفريقي، والتي راح ضحيتها مئات القتلى المسلمين، فليست في جوهرها أكثر من حملة لحماية المصالح التجارية الفرنسية في مناجم اليورانيوم في النيجر ولحماية
الطغاة المحليين المدعومين من فرنسا من خصومهم. وقد جاء
رد ماكرون على اتهام الفرنسيين بارتكاب فظائع في الساحل الأفريقي بالادعاء بأن روسيا تقوم بـ"حملة تضليل" معادية للفرنسيين.
لم يكتف الرد الرسمي على مقتل المعلم الأخير بتوسيع نطاق سياسة رهاب الإسلام الرسمية في فرنسا (لقد كان إغلاق المساجد إحدى الإجراءات العديدة التي تم اتخاذها)، ولكن رد الفعل العنصري الأبيض هذا يشمل أيضا
تحركات وزير الداخلية دارمانان لإغلاق
المنظمة التي ترصد جرائم رهاب الإسلام الفرنسية (واسمها "التجمع ضد رهاب الإسلام في فرنسا")، وهو ما سيجعل ارتكاب الأعمال والجرائم الكارهة للمسلمين في فرنسا من قبل الحكومة والجمهور الفرنسي العنصري تستمر دون رقابة أو توثيق لهذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق المواطنين الفرنسيين المسلمين غير البيض، من قبل أي منظمة فرنسية مناهضة لرهاب الإسلام.
إن إصرار ماكرون مؤخرا على وجوب قيام المسلمين الفرنسيين بالتخلي عن طريقة حياتهم ليصبحوا مواطنين فرنسيين حقيقيين، واقتراحه سن قانون
لإنشاء إسلام فرنسي جديد لمكافحة ما أسماه "الانفصالية" الإسلامية، ليس رد فعل فرنسيا عنصريا، ومسيحيا، وعلمانيا منبت الصلة عن سياسات فرنسا الرسمية تجاه السكان غير المسيحيين. ففي عام 1806، عقد نابليون بونابرت مجلسا لوجهاء الطائفة اليهودية في فرنسا واستجوبهم فيما يتعلق بمعتقداتهم الدينية وتقاليدهم، بما في ذلك تعدد الزوجات والطلاق والزواج من المسيحيين، للتأكد من أن بإمكانهم أن يصبحوا مواطنين فرنسيين على شاكلة المسيحيين الفرنسيين. وقد طالب نابوليون اليهود بالتنديد بتقاليدهم، بناء على تصوره لانفصالية يهودية مزعومة وعدم ولاء اليهود المزعوم لأوطانهم، واستجوبهم حول ما إذا كانوا سيصبحون مواطنين فرنسيين مخلصين، وإذا ما كانوا سيدافعون عن فرنسا ويلتزمون بقوانينها.
أكد
المجلس اليهودي في رده على نابوليون أن حياة اليهود والديانة اليهودية متوافقة تماما مع القيم الفرنسية، حيث أن جميع جوانب الديانة اليهودية وحياة اليهود التي قد تكون غير متوافقة، قد تم تطهيرها بالفعل من المجتمع، بما في ذلك تعدد الزوجات. وأكدوا له أيضا بأنه "واجب" على كل يهودي "اعتبار الأرض التي ولد فيها أو تبناها موطنا له، وسيحبها ويدافع عنها عندما يُطلب منه ذلك".
لكن هذا الاستسلام اليهودي لنابليون لم ينقذ اليهود الفرنسيين من معاداة السامية الفرنسية التي تواصلت في القرن التاسع عشر، وصولا لقضية دريفوس في نهاية القرن، ومن ثم توجت بلا ساميّة حكومة فيشي خلال الحرب العالمية الثانية، ناهيك عن معاداة السامية المستمرة لليمين الفرنسي العنصري اليوم. المهم في هذا السياق هو أنه حتى لو كان دريفوس مذنبا، وهو ما لم يكن عليه بالطبع، فقد ألقى الفرنسيون المعادون للسامية اللوم على جميع اليهود لجريمته المزعومة المتمثلة في الخيانة الوطنية.
ما يسعى إليه ماكرون اليوم هو نزع الطابع الإسلامي عن المسلمين الفرنسيين، تماما كما أصر نابليون على نزع يهودية اليهود الفرنسيين عنهم، كشرط للحصول على مواطنتهم وإلا سيتم تجريمهم وجعل أذرع الدولة الفرنسية والفرنسيين البيض العنصريين يحاصرونهم. أما الهجوم على الإمرأتين المسلمتين في شارع الشانزليزيه قبل بضعة أيام، فما هو إلا مثال بسيط لما يمكن أن يفعله العنصريون الفرنسيون. إن إلقاء اللوم على جميع المسلمين الفرنسيين، بل على الإسلام بذاته، كمسؤولين عن قطع رأس المعلم، هو بحد ذاته ذروة رهاب الإسلام الرسمي الفرنسي.
يبدو من العدل، على ضوء موجة الإرهاب الذي تمارسه الحكومة الفرنسية ضد المواطنين المسلمين، إلقاء اللوم على كل فرنسي أبيض كمسؤول عن الرعب الذي فرضه الفرنسيون على رعاياهم من غير البيض منذ القرن الثامن عشر، بما في ذلك حملات قطع رؤوس أعداد لا تحصى من أبناء الشعوب البُنِيّة والسوداء حول العالم منذ ذلك الحين.
إذا كان على الجريمة المروعة للقاتل الشيشاني المهاجر أن تذكرنا بشيء ما، فهو أن قطع الرؤوس هو تقليد ثقافي وسياسي فرنسي أصلي، وأن الحملة الفرنسية العنصرية الأخيرة ضد المسلمين ليست نتيجة للرعب الذي يشعر به الفرنسيون البيض من قطع الرؤوس، بل بالأحرى لأن رجلا فرنسيا أبيض قد وقع ضحية لها. ففي حين أن الفرنسيين البيض اعتقدوا أنهم يجب أن يكونوا هم قاطعي الرؤوس الشرعيين حصريـا، فإن الفعل المروع الذي قام به المهاجر الشيشاني، خلافا
لإعلان ماكرون بأنه جريمة إسلامية من جرائم المسلمين الذين يسعون إلى "تدمير الجمهورية"، يبدو أنه يشير إلى أن هناك مسلما واحدا في فرنسا قد اندمج بالكامل بثقافة الجمهورية الفرنسية.