هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تمر ذكرى اندلاع الثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي، في أجواء استثنائية هذا العام، بفعل التطورات السياسية المتلاحقة وعودة ملف الذاكرة التاريخية لتصدّر واجهة الأحداث.
وتتجاوز هذه الذكرى حدود الجزائر،
فقد كانت الثورة التي انطلقت في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954، مصدر إلهام لكثير
من الشعوب في تحررها من النظام الاستعماري الذي كان سائدا في النصف الأول من القرن
العشرين.
وباتت الثورة الجزائرية، مع الوقت
تعرف عربيا ودوليا، بثورة المليون ونصف المليون شهيد، بالنظر إلى التضحيات الجسام
التي قدمها الجزائريون، في سبيل دحر الجيش الفرنسي الذي كان من أشرس الأنظمة
الاستعمارية وأكثرها وحشية وكان يحظى بدعم من قوات الحلف الأطلسي.
ورغم مرور 66 سنة على اندلاعها، لا
تزال الثورة الجزائرية، حاضرة بقوة في النقاش السياسي والهوياتي للجزائريين، ولحظة
مؤسسة يتم الاحتكام إليها في كل المحطات المفصلية.
استفتاء في يوم تاريخي
ومن الواضح أن اختيار الرئاسة لهذا
اليوم ذي الرمزية العظيمة، ليكون تاريخا لتنظيم الاستفتاء حول التعديل الدستوري،
كان مدروسا بعناية، ذلك أن الدستور الجديد يتم تقديمه على أنه فاتحة عهد
"الجزائر الجديدة".
وانقسمت الساحة السياسية، بين مثمن
لاختيار هذا اليوم لإجراء الاستفتاء، وبين من اعتبر أنه استغلال غير مقبول لرابط
تاريخي يجمع كل الجزائريين، في مسألة هي أبعد ما تكون عن تحقيق الإجماع.
وتشير تصريحات الوزير الأول عبد
العزيز جراد وأعضاء الحكومة في الحملة الانتخابية، إلى أن اختيار يوم الاستفتاء
يدلّ على التمسك بالهوية "النوفمبرية" للدولة الجزائرية، عكس ما يتحدث
به المعارضون.
وممّا تطعّم به التعديل الدستوري في
هذا الجانب، الإشارة في الديباجة لأول مرة إلى بيان أول نوفمبر باعتباره محطة
مفصلية ونقطة تحول في التاريخ الجزائري الحديث.
اقرأ أيضا: انقسام قبيل استفتاء الجزائريين على التعديل الدستوري
ويتضمن بيان أول نوفمبر الذي كتبه
مفجرو الثورة، شكل الدولة الجزائرية وانتمائها الحضاري، وينص على السعي لبناء وإقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ
الإسلامية.
غير أن الرافضين للدستور ومنهم رؤساء
أحزاب إسلامية مثل عبد الرزاق مقري وعبد الله جاب الله، يعتبرون هذه الإشارة لبيان
أول نوفمبر في الديباجة غير كافية لأنها جاءت حسبهم، على سبيل السرد التاريخي فقط،
في حين كان يفترض أن تستحدث مادة كاملة تنص على اعتبار بيان أول نوفمبر وثيقة مؤسسة
للدولة الجزائرية.
وخارج سياق الداعين للتصويت بنعم أو
لا على الدستور، يحتج المقاطعون للاستفتاء بقوة على اختيار يوم الفاتح نوفمبر،
مثلما صدر في بيانات أحزاب البديل الديمقراطي وجبهة القوى الاشتراكية وغيرها، وذلك
على الرغم من عدم اعترافهم بالتعديل الدستوري ورفضهم المشاركة في مشاوراته من حيث
المبدأ.
ودعت زبيدة عسول، رئيسة حزب الاتحاد
من أجل الرقي والتغيير وإحدى أبرز قادة المعارضة، الجزائريين إلى الاحتفال بيوم
أول نوفمبر بزرع شجرة، كنوع من الاحتجاج الرمزي السلمي على سعي السلطة لتمرير
الدستور.
وذكرت عسول في فيديو لها على صفحة حزبها الرسمية
على فيسبوك، أن التعديل الدستوري يكرس صلاحيات كبيرة في يد رئيس الجمهورية، مطالبة
الجزائريين بأن ينتبهوا لذلك.
وقالت إن خير ما يحتفل به الجزائريون
بذكرى نوفمبر وفاء للشهداء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل استقلال البلاد، هو زرع شجرة
على هذه الأرض، لما في ذلك من فوائد في حماية البلاد من التلوث والتصحر.
مسار الاستقلال بعد 66 سنة
ويحتفل في العادة بذكرى أول نوفمبر،
في الخطابات الرسمية بالتأكيد على أن مسار التحرر الفعلي الذي توّجه هذا التاريخ
وانتهى إلى الاستقلال سنة 1962، مكّن الجزائريين من استعادة السيادة على أرضهم
والتمتع باستقلالهم الوطني.
لكن هناك من يرى من السياسيين، أن
مسار الاستقلال الكامل لا تزال تنقصه أشواط، بالنظر إلى عدم إحساس كثير من
الجزائريين، وفق ما كانوا يرددونه في مسيرات الحراك الشعبي، بأنهم يتمتعون بكامل
حقوقهم السياسية والاجتماعية وحريتهم في البلاد.
ويقول في هذا الصدد، أستاذ العلوم
السياسية زين العابدين غبولي، إنه بعد 66 سنة من اندلاع الثّورة الجزائرية، يبدو
واضحا أن الجزائر لا زالت في مسار معقّد وطويل لاسترجاع سيادتها الشّعبية
واستقلالها الحقيقي.
اقرأ أيضا: إخوان الجزائر يدعون للتصويت بـ"لا" باستفتاء تعديل الدستور
وأوضح غبولي في تصريح لـ"عربي21"،
أنه على مدى العقود التي مضت، حقّقت الدولة الجزائرية إنجازات من ناحية تأميم
مواردها الطّبيعية واعتماد بعض التغييرات السياسية التي فرضتها الظّروف، إلا أن
الجزائر لم تصل بعد لما طمح إليه الشهداء لسببين رئيسيين.
ويعود السبب الأول في اعتقاد الباحث،
إلى أن استقلالية القرار السياسي والسيادة الوطنية مرتبطان أساسا بقدرة البلد على
الاعتماد على نفسه والمرور لدولة مؤسسات قوية، في حين أن الجزائر لا زالت بعيدة عن
ذلك لأسباب عديدة بعضها داخلي والآخر إقليمي وعالمي.
أما السبب الثاني، فيرجع إلى أن
السّيادة الشعبية تستلزم تأسيس ديمقراطية حقيقية لأن الحامي الوحيد للاستقلال هو
الشّعب والجزائر لم تصل بعد لديمقراطية تُشرك الشّعب.
وأضاف في هذه النقطة: "بطبيعة
الحال، سعى الجزائريون، عبر مسيرة نضال طويلة ما بعد الاستقلال، للديمقراطية وتوّج
مسعاهم بحراك 22 فبراير الذي لم يحقّق كل أهدافه بعد. لهذا، عيد الثورة اليوم دعوة
أخرى لمواصلة النّضال من أجل جزائر مستقلّة وسيّدة".
العلاقة مع فرنسا
وبعيدا عن الجانب السياسي، تأتي ذكرى
أول نوفمبر كل سنة، لتُعيد طرح ملف الذاكرة الاستعمارية، والتي تحيل مباشرة إلى
العلاقات مع فرنسا.
وتحاول الجزائر، الدفع نحو اعتراف
فرنسي كامل بالجرائم الاستعمارية التي ارتكبت على أرضها، وتطلب استعادة الأرشيف
المسروق من البلاد، لكن فرنسا تردّ بالجرعة على هذه المطالب.
وخلال هذه السنة، تحقق مكسب طال
انتظاره باستعادة عدد من رفات المقاومين الجزائريين التي كانت فرنسا تحتفظ بها في
متحف الإنسان بباريس، وهو ما فتح الباب أمام إمكانية تسوية قضايا أخرى عالقة من
ملف الذاكرة.
ويتحدث الرئيس عبد المجيد تبون،
بتفاؤل حول هذا الملف، معتبرا أن نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، لديه نوايا حسنة
في معالجة قضايا الذاكرة الأليمة والالتفات للمستقبل.
وكلّف الرئيسان، تبون وماكرون،
باتفاق بينهما، مؤرخين في بلديهما، لوضع اقتراحات حول كيفية معالجة الذاكرة، وهما
من الطرف الفرنسي بن جامين ستورا الشهير بمعرفته الدقيقة بالمسألة الاستعمارية
وعبد المجيد شيخي عن الجانب الجزائري الذي عمل طويلا على قضية الأرشيف.
وفي اعتقاد الباحث في التاريخ، محند
أرزقي فراد، فإن حل مسألة الذاكرة الشائكة بين الجزائر وفرنسا، "لا يمكن
تحقيقها طالما استمر النظام الاستبدادي في الجزائر".
وأوضح فراد في تصريح لـ"عربي21"
أن "الخطوة الأولى المنتظرة في هذا الملف تتمثل في إصدار قانون تجريم
الاستعمار، لكن هذا القرار يتطلب حسبه، أن تستند السلطة على إرادة الشعب، وليس
علاقاتها المميزة مع فرنسا".
واعتبر الباحث في التاريخ أن
"النظام الحالي عاجز عن رسم سياسة واضحة المعالم حول ملف الذاكرة، ويكتفي
عادة بدغدغة عواطف الجزائريين كلما حلت ذكرى من ذكريات الكفاح الوطني"، في
حين تبدو حسبه "الإرادة السياسية من أجل حل هذه المعضلة غائبة لدى
حكامنا".
وشدّد فراد الذي لديه مؤلفات حول
تاريخ المقاومة الجزائرية، على أنه "لا يمكن اختزال ملف الذاكرة في مسألة
الأرشيف فقط، فهناك تداعيات التجارب النووية الفرنسية في صحرائنا التي ما زالت
تحصد أرواحا كثيرة".
وتابع: "لا شك أن فرنسا مطالبة
بتقديم الخرائط الخاصة بجغرافية التجارب النووية، وبالقنابل المضادة للأخصاص
المزروعة على حدودنا، كما أنه من واجب فرنسا التكفل بتطهير المناطق الموبوءة،
وبعلاج المرضى. أما قضية الأرشيف فلا بد من السعي لمعرفة حجم أرشيفنا المصادر
أولا، قبل التفكير في مسألة المفاوضات لاسترجاعه".