صعود الدكتاتورية العربية وعودة "داعش"

حلت جائحة فيروس كورونا المستجدّ (كوفيد 19) في أسوأ وقت على الشعوب العربية، مانحة دكتاتوريات المنطقة ما بعد الكولونيالية ذرائع جديدة لإعلان حالة الاستثناء وفرض أحكام الطوارئ لممارسة المزيد من القمع السياسي والإفقار الاقتصادي والإذلال الاجتماعي، والمضي قدماً في تمتين روابط الخضوع والتبعية مع الإمبريالية الأمريكية والجهر بتحالفاتها مع الصهيونية بتطبيع علاقلاتها مع المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية، وإعلان عدائها وحربها على الإسلاموية وتمثلاتها في الجمهورية الإيرانية الشيعية والدولة التركية السنية، وتلك هي الوصفة المثالية لعودة تنظيم الدولة، الذي ترتكز سرديته الخطابية على مناهضة الإمبريالية والدكتاتورية والطائفية والصهيونية.

لا جدال أن تنظيم الدولة (داعش) هو الأسعد بمركبات الدكتاتوريات العربية الفاشلة، فهو نتاج فشلها وخيانتها وتبعيتها ووقاحتها، إذ لم يصعد داعش 2013 إلا عقب انقضاض قوى الثورة المضادة على ثورات الربيع العربي 2011، التي طالبت بالحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فواجهتها الدكتاتوريات العربية بمزيد من القمع والاستبداد، ومزيد من العمالة والتبعية ومزيد من التجويع والإفقار، إذ لم تكن "صفقة القرن" سوى علامة دالة على الخراب والخواء المتأصل في الدكتاتورية العربية التي قمعت حرية الشعوب في التعبير عن إرادتها الحرة، ولم يكن الحلف الإماراتي- الإسرائيلي، ثم البحريني فالسوداني؛ ممكنا في حضرة الشعوب، وبيشرنا ترامب ونتنياهو بقرب انضمام دكتاتوريات عربية أخرى على رأسها السعودية.

أصبح التطبيع الدكتاتوري العربي مع الاستعمار الإسرائيلي ممكناً، بعد انقلاب حلف الدكتاتوريات على ثورات الربيع العربي، وتحول الأنظمة العربية من دكتاتوريات هجينة إلى دكتاتوريات مطلقة، حيث تبدلت قناعة الدكتاتوريات العربية بإعادة تعريف المخاطر في المنطقة عبر مداخل حرب الإرهاب، ومقاربة العدو باختزاله بالمنظمات الإسلامية السياسية والجهادية، وفي إيران الشيعية وتركيا السنية، وتحول المستعمرة الاستيطانية إلى صديق وشريك.

فحسب المنظورات الإمبريالية الأمريكية والصهيونية الإسرائيلية، فإن البنية التحتية لمشروع "صفقة القرن" باتت مهيئة لإعادة بناء الشرق الأوسط عبر تصفية القضية الفلسطنية، وإدماج المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في نسيج الدكتاتوريات العربية. فالمقاربة الأمريكية بالانسحاب من الشرق الأوسط بالتوجه نحو آسيا المحيط الهادي لمواجهة الصعود الصيني؛ يتطلب راعيا إقليميا جديدا للدكتاتوريات العربية لضمان بقائها، وهو إسرائيل.

يدرك تنظيم الدولة أهمية التحولات في المنطقة وتنامي التحالف الدكتاتوري العربي الإسرائيلي، فقد أصبحت القضية الفلسطينية إحدى أهم سردياته الخطابية بعد مقتل البغدادي. فمع حلول الذكرى الأولى لمقتل البغدادي، نشرت مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي التابعة لتنظيم الدولة، في 18 من تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، تسجيلاً صوتيّاً للمتحدّث باسم التنظيم "أبو حمزة القرشي" بعنوان: "فاقْصُصِ القَصَصَ لعلّهم يتفكّرون"، شكلت اتفاقيات التطبيع ثيمته الرئيسة، واصفاً دول الخليج العربي، بـ"دويلات الخيانة" التي تعمل على تطبيع علاقتها مع "الاحتلال الإسرائيلي"، ووصف علماء الدين في السعوديّة بـ"حمير العلم". ودعا التنظيم أنصاره بتصعيد التحرّك الفرديّ في دول الخليج العربيّ، واستهداف خطوط نقل الطاقة والنفط، والسيّاح الأجانب عامّة والإسرائيليين خاصة.

كان تنظيم الدولة قد استبق لإعلان الرسمي عن خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلام في المنطقة، المعروفة بـ"صفقة القرن"، بالإعلان عن بدء "مرحلة جديدة" من الجهاد تضع تحرير فلسطين في صلب أولوياته المقبلة، وتستهدف مهاجمة المستعمرة الاستيطانية المدعوة "إسرائيل"، وكافة اليهود في أنحاء العالم، وذلك عبر تسجيل صوتي في 27 كانون الثاني/ يناير 2020 صدر عن مؤسسته الإعلامية "الفرقان"، بعنوان "دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها"، للمتحدث باسم التنظيم أبو حمزة القرشي، دعا فيه إلى إفشال "الصفقة"، وقال القرشي: إن زعيم تنظيم الدولة الجديد أبو إبراهيم الهاشمي القرشي "عزم على نفسه وإخوانه المجاهدين.. على مرحلة جديدة ألا وهي قتال اليهود واسترداد ما سلبوه من المسلمين". وأضاف: "لا زالت عيون أجناد الخلافة في كل مكان على بيت المقدس"، متعهداً بهجمات كبيرة "في قادم الأيام".

على مدى سنوات كشف تنظيم الدولة عن مرونة كبيرة بالتكيّف مع المتغيرات، وعن قدرة لافتة في مجال الدعاية والحشد والتعبئة والاستقطاب والتجنيد، وسرعة التعامل مع التحولات الجيوسياسية في المنطقة، إذ يرتكز خطاب التنظيم الإعلامي على قضايا "ما قبل الدعاية" حسب مصطلح الفيلسوف والمنظر الفرنسي جاك إيلول. فتنظيم الدولة يعزز الأفكار والمفاهيم الشائعة أصلا ولا يخلقها، بل يتبناها ويوجهها، فقد ركز على مقاومة الاحتلال الأمريكي للعراق و"الإمبريالية" العالمية في مرحلة مبكرة، ثم على مواجهة النفوذ الإيراني "الشيعي" والطائفية الإقليمية، وبعدها على مناهضة "الدكتاتورية" المحلية واستعادة "الخلافة" السنيّة، وفي زمن "صفقة القرن" التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، باتت مواجهة الصهيونية والدكتاتورية العربية المطبعة ثيمة أساسية.

رغم هزائم تنظيم "داعش" التي مُني بها جغرافياً وعسكرياً، ونهاية خلافته المفروضة في العراق وسوريا، وتحوله إلى خلافة افتراضية، تتواتر التقارير الاستخبارية والبحثية والصحفية التي تشير إلى أن التنظيم ما يزال قادراً على العودة من جديد، من خلال استثمار الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تعمقت بفعل جائحة كورونا. فقد ارتفعت وتيرة الهجمات التي ينفذها التنظيم في العراق وسوريا، فضلاً عن فروعه المنتشرة في مناطق عدة في الشرق الأوسط،. وما يجعل من فرضية عودة "داعش" أشد خطورة هذه المرة، أن الغرب عموماً وأمريكا خصوصاً غير مستعدين للتدخل والتصدي للتنظيم كما فعل سابقاً، الذي أوكل المهمة لتحالف الدكتاتوريات العربية وحليفها الجديد المستعمرة الصهيونية.

إن عودة داعش في ظل صعود الدكتاتورية العربية والصهيونية، تستند إلى تقارير استخبارية وبحثية وصحفية، فقد رجحت صحيفة الغارديان "فرص عودة تنظيم داعش مع انخفاض احتمالات الحملة الصارمة التي تقودها الولايات المتحدة، وهذا الأمر هو الذي يجعل المرحلة الحالية خطيرة بشكل خاص، وإذا استمر الحال في الأشهر المقبلة، فمن المحتمل أن تصبح داعش تهديداً أكبر بكثير، وسيكون من الصعب احتواؤه أكثر مما هو عليه الآن".

ويشير تقرير قدّم إلى مجلس الأمن الدولي في تموز/ يوليو الماضي، إلى أن داعش استغل الثغرات الأمنية التي تسبب بها وباء كورونا في سوريا والعراق. وحسب التقرير الذي وضعه فريق المراقبة التابع للأمم المتحدة، فإن داعش "يُظهر ثقة في قدرته وبطريقة وقحة على العمل بشكل متزايد في منطقته الأساسية السابقة". وأضاف التقرير أن عدد هجمات داعش قد زاد بشكل كبير في أوائل عام 2020 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019. وقال فريق المراقبة التابع للأمم المتحدة: "استغل (داعش) الثغرات الأمنية الناجمة عن الوباء والاضطرابات السياسية في العراق لإعادة إطلاق تمرد في الأرياف، وكذلك عمليات متفرقة في بغداد ومدن كبيرة أخرى".

وفي تقرير حول "العودة الصامتة لداعش" أنجزته مجلة "لوبوان" الفرنسية في أيار/ مايو الماضي، حذرت من الصعود الجديد لعناصر داعش. ويشير التقرير إلى أن التهديد لا يشمل فقط العراق وسوريا، بل يطال بشكل رئيسي القوات الأمريكية الموجودة على الأرض هناك والتي يقدر تعدادها بـ500 عسكري، ويطال أيضاً دولاً غربية بسبب المخاوف من تسلل العناصر الداعشية إليها من خلال تركيا.

وتنقل المجلة عن شون أودونيل المفتش العام للبنتاغون تأكيده أن التهديد يأتي بشكل رئيسي من السجناء الإرهابيين المحتجزين في السجون في شمال شرق سوريا من قبل "قوات سوريا الديمقراطية"، إضافة إلى أسر المقاتلين في مخيمات النازحين في المنطقة. ويلفت التقرير إلى معلومات كشف عنها حينها مركز تحليل بيانات الإرهاب الفرنسي، حول تمكن 13 فرنسية من عناصر داعش من الهروب من مخيمات المنطقة.

وحسب التقرير، يتجمع نحو 100 ألف نازح في عشرات المخيمات في شمال سوريا، من ضمنهم 12 ألف أجنبي وأربعة آلاف امرأة، وثمانية آلاف طفل من أفراد عائلات أعضاء داعش. وأما في السجون الخاصة بـ"الدواعش" فيوجد نحو 12 ألف معتقل، نحو ثلاثة آلاف منهم أجانب، موزعين على نحو 20 سجناً. ويوضح التقرير أن هذا العدد المهول من المحتجزين يمثل "قنبلة موقوتة" في ظل ضعف إمكانات حراستهم، ومحاولات الهروب المتكررة.

أحد مؤشرات عودة "داعش"بحسب صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، بسبب احتياطاته المالية الضخمة، والإيرادات التي ما يزال يحتفظ به، فالمسؤولون أكّدوا على أنّ داعش ما يزال يبتزُّ السكّان المحليين في أماكن وجود أنصاره، ويتلقّى دخلاً من الشركات التي استولى عليها سابقاً، بالإضافة إلى دخله من الاتجار بالبشر، مضيفين أن داعش يمتلك مجموعةً من الشركات والأصول تصل قيمتها إلى مئات الملايين من الدولارات في جميع أنحاء الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

وتقدِّر وزارة الخزانة الأمريكية أنّ احتياطيات التنظيم قد تصل إلى 300 مليون دولار، بينما أعلنت الأمم المتحدة أنّها تقدَّر بمئة مليون دولار على الأقل. وكانت المجموعة المالية متعددة الجنسيات لمكافحة تنظيم داعش الإرهابي قد قالت في بيانٍ لها، إن التنظيم ما يزال مصمماً على إعادة تجميع صفوفه وممارسة العنف ضد شركاء التحالف الدولي والسكان المحليين أينما كانت خلاياه، وأن شبكاته موجودةٌ في جميع أنحاء العالم. ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في تموز/ يوليو 2019، ومنذ خسارة معقله الأخير في الباغوز، استثمر تنظيم "داعش" مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، مثل العقارات ووكالات السيارات.

خلاصة القول أن الأسباب والشروط والظروف الموضوعية التي أدت إلى صعود داعش في العالم العربي قد تغيرت نحو الأسوأ، بتغول الدكتاتورية والصهيونية وتغييب الإرادة الشعبية الحرة. وقد تكاثرت التقارير الدولية خلال الأشهر الأخيرة التي تحذر من إمكانية عودة "داعش"، وهي تقارير تستند إلى مؤشرات نظرية وميدانية عدة، وفي مقدمتها عدم تغيّر الأسباب والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى صعود التنظيم، وهشاشة منطقة الشرق الأوسط والصراعاات الإقليمية الجيوسياسية والطائفية، وعدم وجود حل عادل للقضية الفلسطيمية، وصعود الدكتاتورية في العالم العربي.

وفي المقابل، فإن مؤشرات عودة داعش الذاتية تستند إلى تتبع قوة وانتشار التنظيم، وارتفاع عدد هحماته، وقدارته المالية، والإعلامية، وقدرته على استقطاب وتجتيد مقاتلين جدد. وما يجعل عودة "داعش" ممكنة أكثر عدم استعداد الغرب للتدخل كما فعل سابقاً، وهو ما سيجعل من مهمة القوات المحلية صعبة ومعقدة، في ظل تنامي سيناريوهات الفوضى والاضطراب في العالم العربي، وقرب موجة من الاحتجاجات والعنف.

twitter.com/hasanabuhanya