زيارة الجنرال
عبد الفتاح السيسي إلى فرنسا التي تبدأ رسميا غدا الاثنين (7 كانون الأول/ ديسمبر 2020) ليست الأولى وقد لا تكون الأخيرة، ذلك أن علاقته مع الرئيس الفرنسي إيمانويل
ماكرون توصف بالاستراتيجية، فالرجلان لديهما تطابق في الرؤى تجاه العديد من الملفات الإقليمية وخاصة ليبيا، وغاز المتوسط، والإرهاب، والموقف من تركيا ورئيسها أردوغان الذي يمثل عدوا مشتركا لكليهما، والذي يبذلان كل جهدهما للخلاص منه، وهو أيضا يبادلهما المشاعر والتحركات ذاتها..
لم يعد قصر الإليزيه في عهد ماكرون عرينا للدفاع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان، بل صار مصدر تهديد لها، سواء في الداخل الفرنسي كما هو الحال مع مسلمي
فرنسا الذين يمثلون جزءا كبيرا من السكان، (6- 8 ملايين نسمة) أو في مواجهة الفرنسيين عموما عبر قانون الأمن الشامل الذي
خرج مئات الآلاف من الفرنسيين لمواجهته، وخارجيا كما هو الحال في دعم أعتى الدكتاتوريات، ونخص بالذكر هنا دكتاتور
مصر عبد الفتاح
السيسي، الذي التمس له ماكرون العذر في زيارة سابقة (تشرين الأول/ أكتوبر 2017) في انتهاكاته لحقوق الإنسان، مدعيا أنه "أعلم بظروف بلده" و"كفانا دروسا للآخرين"، وكذا تحالفه ودعمه لدكتاتوريات دول الخليج ودكتاتوريات أفريقيا.
السيسي الذي اشتهر بأنه "فأل نحس" حيثما حل، لم يحرم صديقه ماكرون من حصته من هذا النحس، حيث اندلعت المظاهرات التي ضمت مئات الآلاف من الفرنسيين خلال الأيام الماضية، ولا تزال مستمرة ضد قانون الأمن الشامل الذي يمثل قيودا على الحريات العامة. ويبدو أن ماكرون قد تعرض للعدوى من أصدقائه المستبدين مثل السيسي، فاستعذب تلك الإجراءات الاستثنائية في دولة ظلت تفاخر منذ انتصار ثورتها في العام 1799 بدفاعها عن قيم الحريات العامة وحقوق الإنسان (وخصوصا بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية).
رغم التقارب الذي يصل إلى حد التطابق في الرؤى والمواقف بين ماكرون والسيسي، إلا أن دعم الإليزيه لنظام السيسي لم يكن مجانيا، بل دُفعت فيه المليارات من دم الشعب المصري. فمصر هي أكبر زبون في العالم للأسلحة والمعدات العسكرية وتقنيات القمع الفرنسية، ومن ذلك صفقات الرافال والميسترال، التي تجاوزت ستة مليارات يورو، والتي أثبتت الأحداث أن لا حاجة للجيش المصري إليها (كانت هناك توقعات باستخدامها لتهديد إثيوبيا وهو ما لم يتم)، والقروض الفرنسية التالية والتي كان أحدثها قرض بـ900 مليون يورو هي قروض لا يعرف الشعب المصري أين تصرف بالضبط، ولا كيف سيتم سدادها بعد أن وصل حجم الديون الخارجية المصرية إلى 123 مليار دولار تطوّق أعناق ليس الجيل الحالي فقط بل الأجيال المقبلة.
لن يتورع السيسي عن دفع المزيد من ثروات المصريين (صفقات جديدة غير مفيدة) لصديقه أو كفيله الأوروبي ماكرون لمواجهة الضغوط العالمية المتصاعدة ضده، خاصة مع فوز بايدن بالرئاسة الأمريكية، ومع عودة السخونة
لملف الباحث الإيطالي جوليو ريجيني الذي سيبدأ القضاء الإيطالي بالنظر في قضيته المتهم فيها خمسة من رجال الأمن المصريين رفضت القاهرة حتى الآن تسليمهم، ومع اقتراب تسوية الملف الليبي عبر المفاوضات الجارية حاليا في تونس والمغرب وحتى على الأراضي الليبية ذاتها، وهي المفاوضات التي لا يتوقع أن تمنح صنيعته في بنغازي خليفة حفتر قيادة الدولة الليبية، وكذا مع بدء خطوات المصالحة الخليجية التي قد تخرج منها مصر "بلا حمّص" كما يقولون.
تأتي زيارة السيسي إلى باريس بعد سلسلة من الجرائم الكبرى بحق الحريات والديمقراطية في مصر، فقد أعدم خلال شهرين 57 مصريا بأحكام افتقدت لأبسط قواعد النزاهة والعدالة، ناهيك عن اعتقاله لعشرات الآلاف من المصريين من مختلف التيارات السياسية بين رجال ونساء، كما أنه صادر العمل الحقوقي واعتقل العديد من المدافعين عن
حقوق الإنسان؛ وكان آخرهم موظفو المبادرة المصرية (الذين اضطر لإخلاء سبيلهم قبيل سفره، كما أغلق قضية التمويل الأجنبي التي ضمت 20 منظمة وهي القضية المفتوحة منذ 2011)، لكن معتقلين آخرين لا يزالون رهن الحبس. كما أنه
استبق هذه الزيارة بانتهاكات جديدة ضد حرية الصحافة؛ كان أبرزها إدراج عدد من كبار الإعلاميين المنهاضين له في قوائم الإرهاب، ومصادرة ممتلكاتهم وأموالهم، بسبب معارضتهم له.
كل هذه الانتهاكات دفعت أكثر من
500 شخصية فرنسية لتوقيع عريضة نشرتها صحيفة لوموند؛ طالبوا فيها رئيسهم ماكرون بدعوة السيسي إلى الإفراج الفوري عن المدافعين عن حقوق الإنسان الذين يقبعون في السجون المصرية، كما أصدرت العديد من المنظمات الحقوقية العالمية بيانات إدانة وتنديد بانتهاكات السيسي لحقوق المصريين، وأكدت تلك المنظمات أن استقبال فرنسا للسيسي وصمتها على انتهاكاته يقوض مصداقية باريس عالميا، كما وقع 66 نائبا فرنسيا رسالة علنية دعت السيسي للإفراج عن السجناء السياسيين.
باستقبالها للسيسي دون توقفه عن قمع المصريين تثبت فرنسا ماكرون أنها تخلت بالفعل عن
قيم الجمهورية الفرنسية التي يحاسب ماكرون المسلمين بموجبها حاليا، وتثبت أن حاكمها لا يختلف كثيرا عن حكام العالم الثالث من أعداء الحرية والديمقراطية، ومع انتفاضة الشعب الفرنسي الحالية ضده قد يصبح باب الخروج من الإليزيه مفتوحا له في الانتخابات المقبلة في 2022 ليدفع ثمن دفاعه عن القمع والاستبداد.
twitter.com/kotbelaraby