ما أشبه اعتلاء الحكم ثم الرحيل عن الحياة في صمت..! مشهد شبه متطابق بين أول رئيس مدني منتخب في
موريتانيا وأول رئيس مدني منتخب في
مصر مع بعض الفوارق.
فقد رحل الرئيس الموريتاني الشرعي السابق لموريتانيا،
سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، في صمت، وربما لا يدري به خلق كثير في عالمنا العربي. وقد انتظرت في كتابة هذه السطور عنه أكثر من شهر منذ وفاته (23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020م) حتى تأكدت أنه رحل في صمت فعلا، إذ لم يتوقف عند رحيله نسبة يمكن ذكرها في العالم العربي، وهكذا أراد النظام العسكري الحاكم في موريتانيا مثلما أراد النظام العسكري في مصر مع أول رئيس مدني منتخب.
وهذا دأب النظم العسكرية دائما؛ تبغض المنتخبين شعبيا وتكره أصحاب الشعبية الحقيقية لأنهم يفضحون شعبيتها الزائفة، بل إن هذه الأنظمة الفاشية تأبى إلا أن يرحل هؤلاء بطريقة مأساوية ووسط حملات تشويه وشيطنة، كما فعل عسكر مصر مع الرئيس الشهيد محمد مرسي، وما فعله عسكر تشيلي (أمريكا اللاتينية) بقيادة أوجيستو بينوشيه مع الرئيس المنتخب سيلفادور الليندي.
ليست مفارقة عجيبة أن يدوم حكم الرئيسين مرسي وولد عبد الله عاما واحدا أو يزيد لأيام، وفي ظروف مشابهة بعد عزل دكتاتورين جثما على أنفاس البلاد طويلا. فقد أرادها مهندسو الفاشية العسكرية فترة كافية كفاصل لامتداد الحكم العسكري المصنوع خارجيا..
فقد تولى ولد الشيخ عبد الله (1938 - 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020م)، رئاسة الجمهورية الإسلامية الموريتانية في 19 نيسان/ أبريل 2007م بعد انقلاب عسكري أطاح بالجنرال معاوية ولد الطايع الذي حكم بلاده واحدا وعشرين عاما (1984م - 3 آب/ أغسطس 2005)، وترشح للرئاسة - يرحمه الله - بتنسيق فيما يبدو مع الجيش لرئاسة البلاد عام 2007م، وفاز بنسبة 53 في المئة من الناخبين في جولة الإعادة.. وكان برنامج الرجل إصلاحيا يرمي إلى الاستقلال الوطني.
وهي الظروف والطريقة ذاتها التي استلم بها الرئيس الشهيد محمد مرسي حكم مصر، ولكن على غير رغبة المجلس العسكري وعلى مضض من الولايات المتحدة والغرب عموما، وفزع من الصهاينة، وذلك بعد ثورة شعبية في 25 كانون الثاني/ يناير 2011م أزاحت مبارك بعد حكم دام ثلاثين عاما.
وبينما أضاء انتخاب أول رئيس مدني في موريتانيا جنبات المغرب العربي الكبير المحروم من
الديمقراطية الحقيقية وتنفس الناس هواء الحرية الطبيعي، بدد انتخاب أول رئيس مدني في تاريخ مصر الحديث دياجير سماوات المشرق العربي المعتمة، والتقط الناس أنفاسهم وانشرحت صدورهم لعهد جديد مفعم بالحرية والعدالة بعد طول عذاب.
لكن سرعان ما انفض السامر، وتبدد الحلم الجميل وعادت الغيوم الكالحة السواد مسرعة لتحيل الحياة إلى شقاء، بعد أن خطف الجنرالات الحكم بترتيبات جهنمية محبوكة ومرضي عنها من الغرب، وكانت نهاية الرئيسين عبر انقلاب عسكري.. ناعم في موريتانيا ووحشي في مصر.
قبيل الانقلاب على الرئيس ولد الشيخ كنت هناك في العاصمة نواكشوط في زيارة صحفية امتدت لأسبوعين، التقيت بقادة المكونات السياسية والشعبية الفاعلة ورئيس الوزراء وعدد من الوزراء، وحضرت العديد من ندواتهم ومؤتمراتهم.. وتجولت في جنبات نواكشوط وشاهدت القصر الجمهوري بمسجده الجديد الذي أمر بتشييده الرئيس الجديد.. كان يطل بمئذنته الجميلة من إحدى جنبات القصر الجمهوري على الطريق العام إيذانا بعهد جديد، ولكن سرعان ما تبدد ذلك العهد، وبقي القصر والمئذنة وعاد العسكر للقصر من أوسع أبوابه.
كانت الساحة يومها تموج بتخمينات وتكهنات عن مصير الرئيس الذي ترك البلاد واستقر في باريس بعد خلافه الشديد مع العسكر، بسبب إصراره على أن يكون رئيسا بحق ويحقق مشروعه الإصلاحي للنهوض بالبلاد، وهو ما لم يرُق للعسكر ولفرنسا التي هجع إليها..
لقد اختلفوا وأقال الرئيس من باريس الجنرالات لكنهم ظلوا في أماكنهم، وكانت الساحة السياسية مزدحمة بالتحليلات والتأويلات لما ستؤول إليه البلاد، بعد أن قام الجنرالات بانقلاب عليه أنهى صلته بالقصر وانتهت بذلك تجربة أول رئيس مدني منتخب في موريتانيا، لكن لم تنته التجربة الحزبية، فقد أبقى الانقلاب على جميع الأحزاب لتتواصل اللعبة الديمقراطية ولكن بنفس الهندسة المعروفة.. تواجد على الساحة دون نفوذ ودون أغلبية ولا حتى أقلية ذات شوكة، على عكس مصر والتي سحق الانقلاب تجربتها الحزبية والديمقراطية بعد عزل الرئيس وسجنه في ظروف قاسية حتى تم إنهاء حياته على الملأ، بينما تم الزج بأنصار الديمقراطية في السجون حيث يتساقطون من قسوتها واحدا تلو الآخر حتى اليوم.
استسلم ولد الشيخ -يرحمه الله- للانقلاب وسلم كل شيء فعاش في أمان دون أن يمسه أحد حتى توفي، فأقيمت له جنازة رسمية وأعلن الحداد ثلاثة أيام نكست خلالها الأعلام، وانتهت رحلة الرجل إثر مواراته التراب وبات في طي النسيان.
لكن في الحالة المصرية لم يستسلم الرئيس مرسي ودافع عن الأمانة التي وكلها إليه الشعب في انتخابات حرة، وخاض طريق الكفاح السلمي ودفع حياته ومضى إلى ربه شهيدا، وبقي الانقلاب جاثما مدموغا بأنه انقلاب لا أكثر، دون الحصول على شرعية شعبية حقيقية.. ولذك حرموه حتى من جنازة تحضرها عائلته الكبيرة أو يدفن في المكان الذي أوصى به إلى جوار والده يرحمه الله..!
وما زالت مصر تسير في طريقها مخنوقة بين قبضة عسكر باتوا يسيطرون على كل مفاصل الدولة، وما زالت موريتانيا تسير في طريقها
في قبضة العسكر أيضا، ولكنها قبضة ليّنة ارتخت قليلا ببعض الحريات والعمل السياسي، لكن النهاية في الحالتين واحدة وهي الحياة في ظل الحكم العسكري.. في ظل الفساد والاستبداد والتخلف والتبعية.. بينما انفتح الطريق على مصراعيه للصهاينة نحو أربع عواصم عربية جديدة يرتفع في سماواتها العلم الصهيوني، وما زال الطريق مفتوحا على مصراعيه رغم أنف الشعوب حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.