الثورة الفرنسية ومبادئها
على ثلاثة مبادئ رئيسية قامت الثورة الفرنسية ونشرت مبادئها في العالم، كواحدة من أعظم النشاطات التي عرفها البشر، فالثورة الشعبية هي واحدة من المنتجات التي تصنع في مصانع الضمير وتبذل الدماء لتغير الأوضاع من أجل حياة أفضل للإنسان، فكانت الحرية.. والتحرر من جميع أنواع التعذيب وسوء المعاملة، وعلى رأسها قمع الدولة في كل أشكالها وإطلاق الحق في ممارسة حياة طبيعية من غير قيود، فلا تعني الضوابط التي سمحت بها الجماعة الإنسانية على الأرض لمن تم اختيارهم أن تتحول إلى قيود تكبل الفرد وتفقده حريته، ومن ثم جاء المبدأ الثاني للثورة الفرنسية وهو المساواة، فليس من المقبول التفرقة في التعامل بين الأفراد على أسس الخلفية الاقتصادية أو العرقية أو الجندرية، ما يعني أن الأخوّة هي مبدأ أصيل في هذه الثورة العظيمة، ما يرسخ مبدأ المساواة ويعمق معناه.
وإن كانت فكرة إصلاح الكنيسة من الأفكار الثورية التي تبناها الثوار الفرنسيون، إلا أن العصر الحديث أثبت أن الكنيسة التي ثار عليها الفرنسيون ليست وحدها التي تحمل بذور الفساد باسم الدين، فالفاسدون طوروا لباسهم وخطابهم، فخلعوا لباس الكهنوت ليلبسوا البذة العسكرية واستبدلوا خطاب الوطنية بالدين، ما جعل الثورة عليهم واجبة على كل من صدّق مبادئ الثورة الفرنسية.
ماكرون المنقلب على المبادئ
في كتابه "ثورة إيمانويل ماكرون" يتساءل إيمانويل ماكرون: "هل تظنون كل ما في الكتاب هو مجرد أحلام؟" ثم يجيب على نفسه.. "إنها الثورة الديمقراطية التي يجب أن ننجحها. هذا هو خيارنا الذي لا أعرف خياراً أفضل منه".
فاز ماكرون على منافسته اليمينية ماريان لوبان لا من أجل خطابه الرمادي أو ربما الوردي بعد صراع طويل بين اليمين واليسار، بل من أجل خطاب لوبان الأحمر المخيف الذي أشعر الفرنسيين بأنهم أمام انقلاب على المبادئ الديمقراطية، بل على مبادئ الثورة الفرنسية نفسها. ففرنسا التي استقبلت الملايين من كل الأجناس والعرقيات بات عليها أن تخوض حربا ضدهم، حتى أن أحدهم قال تعليقا على خطاب لوبان التي تنوي طرد غير الفرنسيين قائلا: "ومن سيخوض غمار بطولة كأس العالم القادمة؟".
لكن ماكرون لم يكد يتولى السلطة حتى أظهر وجهه الحقيقي منقلبا على نفسه وما كتبه، وكأن كتابه الذي طبع منه مئات الآلاف من النسخ كان خدعة كبيرة حملها رجال المال الربوي روتشيلد، لينقلب على الآخر ويدعم الدكتاتورية في العالم ويتعالى على "الشركاء في أفريقيا"، أو هكذا كان يتم دوما تصويرهم في
فرنسا ما قبل ماكرون، وينقلب على المساواة لصالح رجال المال والأعمال، ليخرج ضد العمال وينقلب على المساواة والحريات ويساند الدكتاتوريات ويخذل المظلومين في بلادهم بسكوته على اعتقالهم وتعذيبهم، وليتحول ماكرون صاحب كتاب الثورة إلى روبسبير القرن الواحد والعشرين.
السيسي.. سجل حافل من الانقلابات
في ضيافة ماكرون هذه الأيام واحد من أعلام التاريخ، لا من حيث مآثره بل من أجل آثامه وجرائمه. فالسيسي صاحب القسم الشهير بأنه لا مطامع له في السلطة انقلب على رئيسه الذي أقسم له بالولاء، ثم قتل الآلاف من الأبرياء السلميين في مجازر لم يشهد القرن الواحد والعشرين مثيلها، ثم تتعدى جرائمه الحدود ليقتل بطائراته الشعب في ليبيا ويؤجر بندقيته للقتال في السودان وسوريا، ويدفع بسلاحه للدكتاتوريين في المنطقة لقتل الأبرياء في سوريا وليبيا ثم يدعمهم سياسيا.
وفي الداخل لا تنتهي انتهاكات السيسي ونظامه لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ضاربا بثورة ماكرون ومبادئ الثورة الفرنسية عرض الحائط، فلم ينته السيسي عند اعتقال عشرات الآلاف في سجونه، بل اعتقل أيضا من شارك أو حاول أن يشارك في العمليات الديمقراطية أو استحقاقاتها، فاعتقل عبد المنعم أبو الفتوح وأحمد شفيق المرشحين الرئاسيين السابقين، كما اعتقل كلا من سامي عنان وأحمد قنصوة لمجرد التفكير بالمشاركة الديمقراطية في الانتخابات الرئاسية ضده، فانقلب السيسي على كل المبادئ والأعراف التي تعارف عليه العالم المتحضر بقمع المخالفين والمعارضين، وتقنين التشريعات التي تمكنه من إسكات أي صوت يئن من الظلم أو يصف وجعه من حياة الظلام التي يعيشها تحت حكمه غير الرشيد.
والرجل تعدى الانقلاب على المبادئ الديمقراطية؛ إلى الانقلاب على الثوابت الدينية، فماكرون الذي وصف الدين الإسلامي بأنه يعيش أزمة، وأعلن الحرب عليه وضيق على منتسبيه وحد من نشاطهم، رد عليه المسلمون بمقاطعة قضت مضجعه وهددت اقتصاده، إلا أن طائرة السيسي أقلعت لتكسر عنه الحصار، في قرار لم يتخذه لنصرة العرب والمسلمين في غزة.
باريس تحتضن قمة المنقلبين
لقد كان اعتقال نظام السيسي لثلاثة من النشطاء الحقوقيين في المبادرة
المصرية للحقوق الشخصية بالون اختبار للشعب الفرنسي لا لرئيسه، لأن الرجل ونظامه يعرفان جيدا أن ماكرون لا مانع عنده في انتهاك
حقوق الإنسان في مصر؛ لأنه ببساطة لا إنسان من وجهة نظر ماكرون نتاج "الوسط" السياسي والمتحول إلى اليمين تمهيدا للانتخابات القادمة، فكل ما يهم ماكرون هو بيع مزيد من السلاح في ليبيا أو حتى مصر لجني مزيد من الأرباح يُسكت بها الشارع المنتفض ضده منذ عامين. لكن الأزمة الحقيقية هي في تلك الضغوط التي واجهها النظام في مصر بعد اعتقال النشطاء الثلاثة فحملة النظام في مصر جاءت بنتائج عكسية. فجذبت الاعتقالات الأخيرة الانتباه إلى حملة القمع الواسعة ضد المجتمع المدني في مصر، وكان الإفراج السريع نسبياً، بعد أن شكلت حملة دولية شارك فيها نشطاء وسياسيون ومشاهير حول العالم للإفراج عن النشطاء الثلاثة، كان لها تأثيرها الكبير على قرار الإفراج، ما جعل المضيف في الإليزية في حرج كبير.
إن حكومة ماكرون مدينة لفرنسا بأكثر من مجرد إشارة عابرة لحقوق الإنسان في نهاية مؤتمر صحفي، وعلى ماكرون أن يبلغ السيسي بضرورة احترام التزاماته تجاه حقوق الإنسان، هكذا عبّر خمسة عشر برلمانيا فرنسيا عن مبادئ الثورة الفرنسية، لكنك تُسمع لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي، ليذكر التاريخ أن باريس التي احتضنت مبادئ الحرية والمساواة والإخاء.. احتضنت في كانون الأول/ ديسمبر 2020 قمة المنقلبين على المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.