كتاب عربي 21

مواطنة الإلهاء.. المواطنة من جديد (36)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
تقوم النظم الاستبدادية بتوظيف كل المداخل التي يمكن أن تشكل فيها العقول وتتلاعب بها، وتجعل من المواطن أهم أهدافها ضمن هذه اللعبة الخطيرة والحقيرة، إنها صناعة الإلهاء التي تستهدف نقل وتوجيه الاهتمام من قضايا حقيقية كبرى إلى قضايا أخرى هامشية تافهة، ضمن ما يمكن تسميته بصناعة الاهتمام الزائف، وصناعة الاستخفاف ضمن عمليات خطيرة تحاول فيها تشكيل رأي عام هنا أو هناك.

وهي بذلك تحاول أن تجعل من المواطن ألعوبة في يديها حتى لا يمكنه بأي حال أن يعبر عن معنى أو قضية أو موقف. إنها عملية لتغييب الإرادة فضلا عن تزييف العقول بتلك الصناعة التي تجيدها هذه النظم، وتحرص من خلالها على تقبيح الحسن وتحسين القبيح، عمليات بعضها من بعض.

وتبدو تلك النظم الاستبدادية تلبس في كل مرة لبوسا زائفا تحاول أن تتقنع به في محاولة منها لتصوير نفسها بأنها حامية العفة أو الأخلاق أو الآداب، رغم أنه في حقيقة الأمر يقوم على تخريب القيم والأخلاق وهدم المعايير والأسس، والانقلاب على كل ما يتعلق بأصول للتعامل الاجتماعي، ضمن النيل من شبكة العلاقات الاجتماعية؛ حتى يسلس قيادها وتلين في مقودها.. عملية أشار إليها كل هؤلاء الذين كتبوا في الظاهرة الاستبدادية حينما يشيرون إلى صناعة المواطن المطلوب على مقاس النظام المستبد، والعمل على صرف الانتباه عن أمور أساسية وقضايا حقيقية ترتبط بالمواطنة وأصولها، كينونتها ومعاشها، حاجاتها وضروراتها، وذلك من خلال صناعة واصطناع أحداث تافهة ضمن عملية افتعال زائف تصور الأمور على غير حقيقتها وتضعها في مقام غير مقامها.

سنرى في ذلك مشاهد تتعلق بفعل قميء يقوم النظام الاستبدادي بتهويلها، بشكل يشغل الناس ويسيطر على خطاب وسائل التواصل الاجتماعي ضمن هذه الصناعة التافهة وضمن عملية الإلهاء الفاجرة، ولا بأس بأن يظهر النظام بمسوح تتعلق بالدفاع عن القيم والأخلاق وهو هادمها. وفي هذا السياق يمكن أن نرى مشهدا من المشاهد التي في حقيقة الأمر ليست الوحيدة، ولكنها تتكرر ضمن عملية ممنهجة ومنظمة يقوم بها النظام بمؤسساته المختلفة، من مؤسسات مخابراتية وأمنية وإعلامية لإشغال الناس بما لا يشغل.

وفي هذا المقام يجب أن نشير إلى أنه قبل ذلك الحدث "جاتوهات نادي الجزيرة" كانت هناك أحداث كبرى عبّر البعض عن خطورة ما يرتكب بصددها، ومنها ما يتعلق بتصفية شركة الحديد والصلب التي كانت تعبر عن استقلالية في هذه الصناعة، ذلك الصرح الكبير الذي يعبّر عن الصناعة المصرية وتطورها في هذا المجال.

وضمن هذا السياق، فإن هذه الحكومة المستبدة تجد 360 مليار جنيه لقطار كهربائي فائق السرعة ولا تجد تسعة مليارات جنيه لإنقاذ أهم صناعة في مصر. ومن المؤسف حقا أن يهون وزير قطاع الأعمال من هذا الفعل الخطير المتعلق بتصفية شركة الحديد والصلب، متندرا أن الشركة لا تساوي في حقيقة قيمتها أكثر من 10 قروش. هذه السخرية في التعامل مع تلك القيم الاقتصادية والمعنوية إنما تعبر في حقيقة الأمر عن نظر خطير في ما يتعلق بالسياسات التي ترتبط بمعاش المواطن. يعبر هذا الوزير عن سياسات حكومته قائلا إنها لا تقوم على تشغيل شركات خاسرة لا أمل في إصلاحها، بل ويبالغ في تبرير هذه التصفية بزعمه أن الشركة في مديونياتها وخسائرها وصلت إلى الحد الذي يجعل من تصفيتها أمرا ليس فقط مرغوبا ولكنه أمر ضروري، دون الاهتمام بما يؤدي إنهاء هذه الشركة إلى تسريح عمالها وبيع أصولها وإفساد مواردها وتخريب المعدات فيها.

كل ذلك إنما يعبر عن رؤية لهذه السلطة المستبدة ضمن التعامل مع أصول هذا الوطن والتفريط في مقدراته في هذا السياق، ومن الخطير حقا أن ترى كل ذلك في إطار عملية ممنهجة لبيع مقدرات هذا الوطن. فالوزير يقرر التفريط بأهم وأخطر مجمع صناعي تم بناؤه وكان علامة على الصناعة الوطنية ومعداته وأفرانه كانت الأفضل والأحدث في العالم، وإهدار ما فيه من موارد بشرية وفنية، ثم يأتي من يأتي مصادفة ليؤكد أن التصفية ضرورة وأن التطوير لا فائدة منه ولا طائل من ورائه، وكأننا في حالة يكون فيها الوزير المسؤول عن تلك المؤسسات وكأنه يعلن الحرب عليها ضمن مؤامرة كبرى بالتعاون مع مكونات رئيسية في الاقتصاد المصري، إنها رسالة من هؤلاء الذين لا يجيدون إلا بيع الوطن، وهي مهنة بل مهمة باتوا يحترفونها ويجيدون القيام بها.

ثم ماذا عن قطار فائق السرعة؟ فقد اتخذ النظام قرارا بتنفيذ مشروعه بغض النظر عن تكلفته ضمن خطة لا يعرف فيها جدوى لماذا المشروع! وقد عبر كبيرهم من قبل بأنه لا يضيع وقتا في عمل دراسات جدوى وأنه لو ترك لدراسات الجدوى ما نفذ مشروعا وما حدث إنجاز، فلماذا هذا المشروع ابتداء؟ وأي الفئات سيخدم؟ وماذا سيضيف إلى اقتصاد الوطن؟ وبماذا يمكن أن نفسر هذا القطار الجديد بتكلفة 360 مليار جنيه، أي ما يعادل 23 مليار دولار، سيتم اقتراضها من الخارج ضمن السياسة الممنهجة في إغراق البلاد في مزيد من الديون ورفع الأسعار وزيادة الضرائب والرسوم، بدلا من تطوير منظومة السكك الحديدية التي تخدم أكثر من خمسين مليون مواطن، فيقرر مغتصب القرار ضمن عملية استبداده واستخفافه إطلاق قطار كهربائي يخدم عدة آلاف من مرتادي الساحل الشمالي ومدينة العلمين وقاطني العاصمة الجديدة من الأغنياء وسدنة النظام.

كل ذلك يعبر عن رؤية هذا النظام المستبد لأي مشروع يمكن أن يقوم على مصالحه ويحقق ضرورته. ولا ننسى هنا هذا التصريح الخطير والموثق لمستبدهم الأكبر ردا على ما قاله وزير السكك الحديدية آنذاك؛ أن تلك المنظومة تتطلب عشرة مليارات جنيه لإصلاحها، فأتى الرد حاسما من قبله بأنه من الأفضل له أن يودع هذا المبلغ في البنوك ويحصل على فائدته. هذه السياسة في التعامل مع المشاريع التي تخصّهم والتوسيع عليها، ومشاريع المواطنين والتضييق فيها، تمثل كينونة رؤيتهم للمواطن والاستخفاف به.

ولعلي في هذا المقام ألتقط معنى أشار إليه أحد الباحثين النبهاء في مقارنة حول قيمة الإنسان، والانزلاق إلى حالة التفاهة وصناعة الإلهاء، ليؤكد "ما الذي يجب أن يزعج أي نظام أو سلطة أكثر من الحفاظ على حياة مواطنيها، أو في أسوأ الأحوال التحقق من الأسباب التي أودت بحياة المواطنين في ظروف يكتنفها تقصير من مسؤولين. وبنفس القدر، ماذا يمكن أن يزعج المواطنين أكثر من تلك الأمور التي يشترك فيها المجتمع مع السلطة في إعلاء قيمة النفس البشرية والحفاظ على كرامتها. فقد مر أكثر من أسبوعين ولم نسمع عن نتائج التحقيق في وفاة أربعة مواطنين في مستشفى الحسينية بعد مشهد فيديو صادم أشرنا إليه في مقال سابق، لم تنتفض السلطة وتتقصى في الحقائق عن تلك الفاجعة بنفس هرولتها للتقصي والبحث عن الشخص المسؤول عن نشر الفيديو الذي كشف عن الفاجعة!!..

غابت نتائج التحقيق الرسمية لأسابيع حتى جاءت نتائج التحقيق من أطباء متخصصين ليثبتوا من خلال خبراتهم ومن خلال مقطع الفيديو المنتشر أن سبب الوفاة هو انقطاع الأكسجين عن المرضى، وقد نشر ذلك في تقرير وتحقيق للنيويورك تايمز عما حدث، في استقصاء دقيق وعميق..

لا زالت نتائج التحقيق لم تظهر وربما لن تظهر، وإن ظهرت بالتأكيد لن تلقي السلطة بالمسؤولية على أحد من رجالها، ولكنها ستعمل من خلال مؤسساتها صانعة الاستخفاف، ومصانع الإلهاء ستهتم ببائعة حلوى نادي الجزيرة وتطاردها وتقبض عليها، وستجر وراءها المجتمع ليتابع تفاصيل الحدث المهم، ضمن صناعة التفاهة. وفي ذات الوقت سنرى مشاهد لإنسان ومواطن يُقتل نتيجة تقصير، وآخر يُقتل نتيجة ممارسات قمعية واستبدادية، ويستمر مسلسل الإلهاء والاستخفاف الذي لا ينتهي في محاولات السلطة لنقل الاهتمام وما يزعجها للمجتمع، وقتل اهتماماته التي تتعلق بقيمة الإنسان أو محاسبة السلطة".

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)